{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)}
قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً} هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ حمزة بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لما سمعها. النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات: إحداهن أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الذال، ولا من أخواتهن، وإنما أختاها الطاء والدال، وأخت الزاي الصاد والسين، وأخت الذال الظاء والثاء. والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى. والجهة الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة، نحو دابة وشابة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف. {وَالصَّافَّاتِ} قسم، الواو بدل من الباء. والمعنى برب الصافات و{فَالزَّاجِراتِ} عطف عليه. {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ} جواب القسم. وأجاز الكسائي فتح إن في القسم. والمراد ب {الصَّافَّاتِ} وما بعدها إلى قوله: {فَالتَّالِياتِ ذِكْراً} الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة.
وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وهذا كما تقوم العبيد بين أيدي ملوكهم صفوفا.
وقال الحسن: {صَفًّا} لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم.
وقيل: هي الطير، دليله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ} [الملك: 19]. والصف ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. {والصَّافَّاتِ} جمع الجمع، يقال: جماعة صافة ثم يجمع صافات.
وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد، ذكره القشيري. {فَالزَّاجِراتِ} الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود ومسروق وغيرهم على ما ذكرناه. إما لأنها تزجر السحاب وتسوقه في قول السدي. وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح.
وقال قتادة: هي زواجر القرآن. {فَالتَّالِياتِ ذِكْراً} الملائكة تقرأ كتاب الله تعالى، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي.
وقيل: المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع، لأنه كبير الملائكة فلا يخلو من جنود وأتباع.
وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله تعالى وكتبه.
وقيل: هي آيات القرآن وصفها بالتلاوة كما قال تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ} [النمل: 76]. ويجوز أن يقال لآيات القرآن تاليات، لأن بعض الحروف يتبع بعضا، ذكره القشيري. وذكر الماوردي: أن المراد بالتاليات الأنبياء يتلون الذكر على أممهم. فإن قيل: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قيل له: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود، كقوله:
يا لهف زيابة للحارث الص *** ابح فالغانم فالآيب
كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين. فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر ألفاء العاطفة في الصفات، قاله الزمخشري. {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ} جواب القسم. قال مقاتل: وذلك أن الكفار بمكة قالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، وكيف يسع هذا الخلق فرد إله! فأقسم الله بهؤلاء تشريفا.
ونزلت الآية. قال ابن الأنباري: وهو وقف حسن، ثم تبتدى {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} على معنى هو رب السموات. النحاس: ويجوز أن يكون {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}
خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من {واحد}. قلت: وعلى هذين الوجهين لا يوقف على {لواحد}.
وحكى الأخفش: {رب السموات ورب المشارق} بالنصب على النعت لاسم إن. بين سبحانه معنى وحدانيته وألوهيته وكمال قدرته بأنه {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي خالقهما ومالكهما {وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ} أي مالك مطالع الشمس. ابن عباس: للشمس كل يوم مشرق ومغرب، وذلك أن الله تعالى خلق للشمس ثلاثمائة وخمسة وستين كوة في مطلعها، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع في كل يوم في كوة منها، وتغيب في كوة، لا تطلع في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل. ولا تطلع إلا وهي كارهة فتقول: رب لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك. ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد، وابن الأنباري في كتاب الر د عن عكرمة، قال: قلت لابن عباس أرأيت ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمية بن أبي الصلت {آمن شعره وكفر قلبه} قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك؟ قلت: أنكرنا قول:
والشمس تطلع كل آخر ليلة *** وحمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعه لهم في رسلها *** وإلا معذبة وإلا تجلد
ما بال الشمس تجلد؟ فقال: والذي نفسي بيده ما طلعت شمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك، فيقولون لها اطلعي اطلعي، فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها ملك فيستقل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها، فذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها» لفظ ابن الأنباري. وذكر عن عكرمة عن ابن عباس قال: صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمية بن أبي الصلت في هذا الشعر:
زحل وثور تحت رجل يمينه *** ووالنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة *** وحمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعه لهم في رسلها *** وإلا معذبة وإلا تجلد
قال عكرمة: فقلت لابن عباس: يا مولاي أتجلد الشمس؟ فقال: إنما اضطره الروي إلى الجلد لكنها تخاف العقاب. ودل بذكر المطالع على المغارب، فلهذا لم يذكر المغارب، وهو كقوله: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. وخص المشارق بالذكر، لأن الشروق قبل الغروب.
وقال في سورة الرحمن {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] أراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار على ما تقدم في {يس} والله أعلم.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)}
قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} قال قتادة: خلقت النجوم ثلاثا، رجوما للشياطين، ونورا يهتدى بها، وزينة لسماء الدنيا. وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وعاصم وحمزة {بِزِينَةٍ} مخفوض منون {الْكَواكِبِ} خفض على البدل من {بِزِينَةٍ} لأنها هي. وقرأ أبو بكر كذلك إلا أنه نصب {الكواكب} بالمصدر الذي هو زينة. والمعنى بأن زينا الكواكب فيها. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعنى، كأنه قال: إنا زيناها {بزينة} أعني {الكواكب}.
وقيل: هي بدل من زينة على الموضع.
ويجوز {بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} بمعنى أن زينتها الكواكب. أو بمعنى هي الكواكب. الباقون {بزينة الكواكب} على الإضافة. والمعنى زينا السماء الدنيا بتزيين الكواكب، أي بحسن الكواكب. ويجوز أن يكون كقراءة من نون إلا أنه حذف التنوين استخفافا. {وَحِفْظاً} مصدر أي حفظناها حفظنا. {مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} لما أخبر أن الملائكة تنزل بالوحي من السماء، بين أنه حرس السماء عن استراق السمع بعد أن زينها بالكواكب. والمارد: العاتي من الجن والإنس، والعرب تسميه شيطانا. قوله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى} قال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا ثم حذف {أن} فرفع الفعل. الملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمي الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملأ الأرض. الضمير في {يَسَّمَّعُونَ} للشياطين. وقرأ جمهور الناس {يسمعون} بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {لا يسمعون} بتشديد السين والميم من التسميع. فينتفي على القراءة الأولى سماعهم وإن كانوا يستمعون، وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]. وينتفي على القراءة الأخيرة أن يقع منهم استماع أو سماع. قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وروي عن ابن عباس {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ} قال: هم لا يسمعون ولا يتسمعون. واصل {يَسَّمَّعُونَ} يتسمعون فأدغمت التاء في السين لقربها منها. واختارها أبو عبيد، لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه وتقول تسمعت إليه. {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ} أي يرمون من كل جانب، أي بالشهب. {دُحُوراً} مصدر لأن معنى {يُقْذَفُونَ} يدحرون. دحرته دحرا ودحورا أي طردته. وقرأ السلمي ويعقوب الحضرمي {دحورا} بفتح الدال يكون مصدرا على فعول. وأما الفراء فإنه قدره على أنه اسم الفاعل. أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء، والكوفيون يستعملون هذا كثير كما أنشدوا:
تمرون الديار ولم تعوجوا واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث، على قولين. وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة الجن عن ابن عباس. وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال: إن الذين قالوا لم تكن الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رميت، أي لم تكن ترمى رميا يقطعها عن السمع، ولكنها كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب. ولعل الإشارة بقوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} إلى هذا المعنى، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبا. وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويزسلزم واحد ولا يزسلزم غيره، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل. فلما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد في حفظ السماء، واعدت لهم شهب لم تكن من قبل، ليدحروا عن جميع جوانب السماء، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها، فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه، فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة. فإن قيل: إن هذا القذف إن كا ن لأجل النبوة فلم دام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فالجواب: أنه دام بدوام النبوة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر ببطلان الكهانة فقال: «ليس منا من تكهن» فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها، وعادت الكهانة. ولا يجوز ذلك بعد أن بطل، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة، فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام، وبعد أن توفاه الله إلى كرامته صلى الله عليه وعلى آله. {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} أي دائم، عن مجاهد وقتادة.
وقال ابن عباس: شديد. الكلبي والسدي وأبو صالح: موجع، أي الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب وهو المرض {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} استثناء من قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ}.
وقيل: الاستثناء يرجع إلى غير الوحي، لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] فيسترق الواحد منهم شيئا مما يتفاوض فيه الملائكة، مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض، وهذا لخفة أجسام الشياطين فيرجمون بالشهب حينئذ. وروي في هذا الباب أحاديث صحاح، مضمونها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد للسمع واحدا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله تعالى الأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه على ما بيناه. فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون الجميع كما بيناه في الأنعام. فلما جاء الله بالإسلام حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع بتة. والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها، لأنها قريبة منا. وقد مضى في هذا الباب في سورة الحجر من البيان ما فيه كفاية. وذكرنا في سبأ حديث أبي هريرة. وفيه: «والشياطين بعضهم فوق بعض» وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح. وفي عن ابن عباس: «ويختطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون». قال هذا حديث حسن صحيح. والخطف: أخذ الشيء بسرعة، يقال خطف وخطف وخطف وخطف. والأصل في المشددات اختطف فأدغم التاء في الطاء لأنها أختها، وفتحت الخاء، لأن حركة التاء ألقيت عليها. ومن كسرها فلالتقاء الساكنين. ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر. {فاتبعه شهاب ثاقب} أي مضيء، قاله الضحاك والحسن وغيرهما.
وقيل: المراد كواكب النار تتبعهم حتى تسقطهم في البحر.
وقال ابن عباس في الشهب: تحرقهم من غير موت. وليست الشهب التي يرجم الناس بها من الكواكب الثوابت. يدل على ذلك رؤية حركاتها، والثابتة تجري ولا ترى حركاتها لبعدها. وقد مضى هذا. وجمع شهاب شهب، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يسمع من العرب و{ثاقِبٌ} معناه مضيء، قاله الحسن ومجاهد وأبو مجلز. ومنه قوله:
وزندك أثقب أزنادها ***
أي أضوأ.
وحكى الأخفش في الجمع: شهب ثقب وثواقب وثقاب.
وحكى الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا إذا اتقدت، وأثقبتها أنا.
وقال زيد بن أسلم في الثاقب: إنه المستوقد، من قولهم: أثقب زندك أي استوقد نارك، قال الأخفش. وأنشد قول الشاعر:
بينما المرء شهاب ثاقب *** وضرب الدهر سناه فخمد
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)}
قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي سلهم يعني أهل مكة، مأخوذ من استفتاء المفتي. {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا} قال مجاهد: أي من خلقنا من السموات والأرض والجبال والبحار.
وقيل: يدخل فيه الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية. يدل على ذلك أنه أخبر عنهم {بمن} قال سعيد بن جبير: الملائكة.
وقال غيره: {من} الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشد خلقا منهم. نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وسمي بأبى الأشد لشدة بطشه وقوته. وسيأتي في {البلد} ذكره. ونظير هذه: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ} [النازعات: 27]. {إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} أي لاصق، قال ابن عباس. ومنه قول علي رضي الله عنه:
تعلم فإن الله زادك بسطة *** ووأخلاق خير كلها لك لازب
وقال قتادة وابن زيد: معنى {لازب} لازق. الماوردي: والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق: هو الذي قد لصق بعضه ببعض، واللازق: هو الذي يلتزق بما أصابه.
وقال عكرمة: {لازب} لزج. سعيد بن جبير: أي جيد حر يلصق باليد. مجاهد {لازب} لازم. والعرب تقول: طين لازب ولازم، تبدل الباء من الميم. ومثله قولهم لاتب ولازم. على إبدال الباء بالميم. واللازب الثابت، تقول: صار الشيء ضربة لازب، وهو أفصح من لازم. قال النابغة:
ولا تحسبون الخير لا شر بعده *** ولا تحسبون الشر ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب: طين لاتب بمعنى لازم. واللاتب الثابت، تقول منه: لتب يلتب لتبا ولتوبا، مثل لزب يزب بالضم لزوبا، وأنشد أبو الجراح في اللاتب:
فإن يك هذا من نبيذ شربته *** وفاني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة *** ووغم مع الإشراق في الجوف لاتب
واللاتب أيضا: اللاصق مثل اللازب، عن الأصمعي حكاه الجوهري.
وقال السدي والكلبي في اللازب: إنه الخالص. مجاهد والضحاك: إنه المنتن. قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به. وهي قراءة شريح وأنكر قراءة الضم وقال: إن الله لا يعجب من شي، وإنما يعجب من لا يعلم.
وقيل: المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بضم التاء. واختارها أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود، رواه شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: {بل عجبت} بضم التاء. ويروى عن ابن عباس. قال الفراء في قوله سبحانه: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قرأها الناس بنصب التاء ورفعها، والرفع أحب إلي، لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس.
وقال أبو زكريا القراء: العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ليس ذلك من الله كمعناه من العباد. وفى هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها. روى جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قرأها عبد الله يعني ابن مسعود {بل عجبت ويسخرون} قال شريح: إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. قال الأعمش فذكرته لإبراهيم فقال: إن شريحا كان يعجبه رأيه، إن عبد الله كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبد الله {بل عجبت}. قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} بل جازيتهم على عجبهم، لأن الله تعالى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق، فقال: {وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ص: 4] وقال: {إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ}، {أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: 2] فقال تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ} بل جازيتهم على التعجب. قلت: وهذا تمام معنى قول الفراء واختاره البيهقي.
وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، التقدير: قيل يا محمد بل عجبت، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخاطب بالقرآن. النحاس: وهذا قول حسن وإضمار القول كثير. البيهقي: والأول أصح. المهدوي: ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولا على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه- على ما جاء في الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازا واتساعا. قال الهروي: ويقال معنى عجب ربكم أي رضي وأثاب، فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة، كما فال تعالى: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] معناه ويجازيهم الله على مكرهم، ومثله في الحديث: «عجب ربكم من إلكم وقنوطكم». وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيما. فيكون معنى قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} أي بل عظم فعلهم عندي. قال البيهقي: ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر قال:
سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «عجب ربك من شاب ليست له صبوة» وكذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» قال البيهقي: وقد يكون هذا الحديث وما ورد من أمثاله أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده، حين حملهم على الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل، حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة.
وقيل: معنى {بَلْ عَجِبْتَ} بل أنكرت. حكاه النقاش.
وقال الحسين بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب. وقد جاء في الخبر: «عجب ربكم من الكم وقنوطكم». {وَيَسْخَرُونَ} قيل: الواو واو الحال، أي عجبت منهم في حال سخريتهم.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} ثم استأنف فقال: {وَيَسْخَرُونَ} أي مما جئت به إذا تلوته عليهم.
وقيل: يسخرون منك إذا دعوتهم. قوله تعالى: {وَإِذا ذُكِّرُوا} أي وعظوا بالقرآن في قول قتادة: {لا يَذْكُرُونَ} لا ينتفعون به.
وقال سعيد بن جبير: أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين من قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا. {وَإِذا رَأَوْا آيَةً} أي معجزة {يَسْتَسْخِرُونَ} أي يسخرون في قول قتادة. ويقولون إنها سحر. واستسخر وسخر بمعنى مثل استقر وقر، واستعجب، وعجب.
وقيل: {يَسْتَسْخِرُونَ} أي يستدعون السخري من غيرهم.
وقال مجاهد: يستهزئون.
وقيل: أي يظنون أن تلك الآية سخرية. {وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي إذا عجزوا عن مقابلة المعجزات بشيء قالوا هذا سحر وتخييل وخداع. {أَإِذا مِتْنا} أي انبعث إذا متنا؟. فهو استفهام إنكار منهم وسخرية. {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ} أي أو تبعث آباؤنا. دخلت ألف الاستفهام على حرف العطف. قرأ نافع: {أو آباؤنا} بسكون الواو. وقد مضى هذا في سورة الأعراف. في قوله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} [الأعراف: 98].
{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}
قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ} أي نعم تبعثون. {وَأَنْتُمْ داخِرُونَ} أي صاغرون أذلاء، لأنهم إذا رأوا وقوع ما أنكروه فلا محالة يذلون وقيل: أي ستقوم القيامة وإن كرهتم، فهذا أمر واقع على رغمكم وإن أنكرتموه اليوم بزعمكم. {فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ} أي صيحة واحدة، قاله الحسن وهي النفخة الثانية. وسميت الصيحة زجرة، لأن مقصودها الزجر أي يزجر بها كزجر الإبل والخيل عند السوق. {فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} أي ينظر بعضهم إلى بعض.
وقيل: المعنى ينتظرون ما يفعل بهم.
وقيل: هي مثل قوله: {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 97].
وقيل: أي ينظرون إلى البعث الذي أنكروه. قوله تعالى: {وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ} نادوا على أنفسهم بالويل، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم. وهو منصوب على أنه مصدر عند البصريين. وزعم الفراء أن تقديره يأوي لنا، ووي بمعنى حزن. النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا. و{يَوْمُ الدِّينِ} يوم الحساب.
وقيل: يوم الجزاء. {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} قيل: هو من قول بعضهم لبعض، أي هذا اليوم الذي كذبنا به.
وقيل: هو قول الله تعالى لهم.
وقيل: من قول الملائكة، أي هذا يوم الحكم بين الناس فيبين المحق من المبطل. ف {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}
قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ}، هو من قول الله تعالى للملائكة: {احْشُرُوا المشركين وَأَزْواجَهُمْ} أي أشياعهم في الشرك، والشرك الظلم، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فيحشر الكافر مع الكافر، قاله قتادة وأبو العالية.
وقال عمر بن الخطاب في قول الله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} قال: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السر قه.
وقال ابن عباس: {وَأَزْواجَهُمْ} أي أشباههم. وهذا يرجع إلى قول عمر.
وقيل: {وَأَزْواجَهُمْ} نساؤهم الموافقات على الكفر، قاله مجاهد والحسن، ورواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب.
وقال الضحاك: {وَأَزْواجَهُمْ} قرناءهم من الشياطين. وهذا قول مقاتل أيضا: يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة. {وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام والشياطين وإبليس. {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} أي سوقوهم إلى النار.
وقيل: {فَاهْدُوهُمْ} أي دلوهم. يقال: هديته إلى الطريق، وهديته الطريق، أي دللته عليه. وأهديت الهدية وهديت العروس، ويقال أهديتها، أي جعلتها بمنزلة الهدية. قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} وحكى عيسى بن عمر {أنهم} بفتح الهمزة. قال الكسائي: أي لأنهم وبأنهم، يقال: وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا، يتعدى ولا يتعدى، أي احسبوهم. وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم، وفية تقديم وتأخير، أي قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار.
وقيل: يساقون إلى النار أولا ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار. {إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم، قال القرظي والكلبي. الضحاك: عن خطاياهم. ابن عباس: عن لا إله إلا الله. وعنه أيضا: عن ظلم الخلق.
وفي هذا كله دليل على أن الكافر يحاسب. وقد مضى في {الحجر} الكلام فيه. وقيل سؤالهم أن يقال لهم: {لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] إقامة الحجة. ويقال لهم: {ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ} على جهة التقريع والتوبيخ، أي ينصر بعضكم بعضا فيمنعه من عذاب الله.
وقيل: هو إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44]. وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وشدد البزي التاء في الوصل. قوله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله عز وجل. ابن عباس: خاضعون ذليلون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم. والمعنى متقارب. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} يعني الرؤساء والأتباع {يَتَساءَلُونَ} يتخاصمون. ويقال لا يتساءلون فسقطت لا. النحاس: وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهم أن هذا من قوله: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} [المؤمنون: 101] إنما هو لا يتساءلون بالأرحام، فيقول أحدهم: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك لما نفعتني، أو أسقطت لي حقا لك علي، أو وهبت لي حسنة. وهذا بين، لأن قبله {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101]. أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم، كما جاء في الحديث: «إن الرجل ليسر بأن يصبح له على أبيه أو على ابنه حق فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات»، وفي حديث آخر: «رحم الله امرأ كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فأتاه فاستحله قبل أن يطالبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب». و{يَتَساءَلُونَ} ها هنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبخه في أنه أضله أو فتح بابا من المعصية، يبين ذلك أن بعده {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} قال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين. قتادة: هو قول الإنس للجن.
وقيل: هو من قول الأتباع للمتبوعين، دليله قول تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] الآية. قال سعيد عن قتادة: أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها. وعن ابن عباس نحو منه.
وقيل: تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح. والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح.
وقيل: {تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدقناه.
وقيل: تأتوننا من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قلت: وهذا القول حسن جدا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة.
وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى: {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93] أي بالقوة وقوه الرجل في يمينه، وقال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد *** وتلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة والقدرة. وهذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد: {تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} أي من قبل الحق أنه معكم، وكله متقارب المعنى. {قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} قال قتادة: هذا قول الشياطين لهم.
وقيل: من قول الرؤساء، أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر، بل كنتم على الكفر فأقمتم عليه للألف والعادة. {وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي من حجة في ترك الحق {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ} أي ضالين متجاوزين الحد. {فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا} هو أيضا من قول المتبوعين، أي وجب علينا وعليكم قول ربنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما كتب الله وأخبر على ألسنة الرسل {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. وهذا موافق للحديث: «إن الله جل وعز كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم». {فَأَغْوَيْناكُمْ} أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر {إِنَّا كُنَّا غاوِينَ} بالوسوسة والاستدعاء. ثم قال خبرا عنهم: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} الضال والمضل. {إِنَّا كَذلِكَ} أي مثل هذا الفعل {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي المشركين.! {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أي إذا قيل لهم قولوا فأضمر القول.
و{يَسْتَكْبِرُونَ} في موضع نصب على خبر كان. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة. ولما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي طالب عند موته واجتماع قريش: «قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم» أبوا وأنفوا من ذلك.
وقال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أنزل الله تعالى في كتابه فذكر قوما استكبروا فقال: {إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وقال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها} [الفتح: 26] وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قضية المدة»، ذكر هذا الخبر البيهقي، والذي قبله القشيري.
{وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)}
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} أي لقول شاعر مجنون، فرد الله جل وعز عليهم فقال: {بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ} يعني القرآن والتوحيد {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} فيما جاءوا به من التوحيد. {إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ} الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة. ويجوز النصب كما أنشد سيبويه:
فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا
وأجاز سيبويه {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} على هذا. {وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إلا بما عملتم من الشرك {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} لاستثناء ممن يذوق العذاب. وقراءة أهل المدينة والكوفة {المخلصين} بفتح اللام، يعني الذين أخلصهم الله لطاعته ودينه وولايته. الباقون بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لله العبادة.
وقيل: هو استثناء منقطع، أي إنكم أيها المجرمون ذائقو العذاب لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.