{تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)}
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ} رفع بالابتداء وخبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل، قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا {تَنْزِيلُ} بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي: أي اتبعوا واقرءوا {تَنْزِيلُ الْكِتابِ}.
وقال الفراء: هو على الإغراء مثل قوله: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي الزموا. والكتاب القرآن. سمي بذلك لأنه مكتوب.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق، أي بالصدق وليس بباطل وهزل. {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً} {مُخْلِصاً} فيه مسألتان: الأولى: {مُخْلِصاً} نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا {لَهُ الدِّينَ} أي الطاعة.
وقيل: العبادة وهو مفعول به. {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} أي الذي لا يشوبه شي.
وفي حديث الحسن عن أبى هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنى أتصدق بالشيء. وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} وقد مضى هذا المعنى في البقرة و{النساء} و{الكهف} مستوفى.
الثانية: قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف {فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً} [الأحقاف: 28] والزلفى القربة، أي ليقربونا إليه تقريبا، فوضع {زُلْفى} في موضع المصدر.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد {والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلْفى} وفي حرف أبي {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله زلفى} ذكره النحاس. قال: والحكاية في هذا بينة. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد، أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام، كما قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم. قوله تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ} أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. {سُبْحانَهُ} أي تنزيها له عن الولد {هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض، يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل وهو معنى قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر: 13] وقيل: تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته، وهذا قول قتادة. وهو معنى قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف: 4 5]. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب.
وقيل: الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهى فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها. قال الكلبي: يسيران إلى أقصى منازلهما، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه. وقد تقدم بيان هذا في سورة يس. {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} {ألا} تنبيه أي تنبهوا فإني أنا {الْعَزِيزُ} الغالب {الْغَفَّارُ} الساتر لذنوب خلقه برحمته. قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} يعني آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها} يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في الأعراف وغيرها. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج، ومثله قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً} [الأعراف: 26] الآية.
وقيل: أنزل أنشأ وجعل.
وقال سعيد بن جبير: خلق.
وقيل: إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد.
وقيل: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام} أي أعطاكم.
وقيل: جعل الخلق إنزالا، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة: من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج. وقد تقدم هذا. {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم.
وقيل: في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. {فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح.
وقيل: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. {ذلِكُمُ اللَّهُ} أي الذي خلق هذه الأشياء {رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة {أمهاتكم} بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}
قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} شرط وجوابه. {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم.
وقال ابن عباس والسدي: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الإسراء: 65]. وكقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة.
وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرضى الشكر لكم، لأن {تَشْكُرُوا} يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في البقرة وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و{يَرْضَهُ} بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} تقدم في غير موضع.
{وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)}
قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ} يعني الكافر {ضُرٌّ} أي شدة من الفقر والبلاء {دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. {ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أي أعطاه وملكه. يقال: خولك الله الشيء أي ملكك إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا *** وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
وخول الرجل: حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم:
أعطى فلم يبخل ولبخل *** وكوم الذرى من خول المخول
{نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل فكشف الضر عنه. ف {ما} على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي.
وقيل: بمعنى من كقوله: {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] والمعنى واحد.
وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر. {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً} أي أوثانا وأصناما.
وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي ليقتدي به الجهال. {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي قل لهذا الإنسان {تَمَتَّعْ} وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. {إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ} أي مصيرك إلى النار. قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ} بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي {أَمَّنْ} بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة: {أَمَّنْ هُوَ} بالتخفيف على معنى النداء، كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين، كما قال أوس بن حجر:
أبني لبيني لستم بيد *** وإلا يدا ليست لها عضد
وقال آخر هو ذو الرمة:
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة *** وفماء الهوى يرفض أو يترقرق
فالتقدير على هذا {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ} يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة، كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر، فحذف لدلالة الكلام عليه.
وقيل: إن الألف في {أَمَّنْ} ألف استفهام أي {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ} أفضل؟ أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد {أمن} فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ} فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وام بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر.
وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع، قاله ابن مسعود.
الثاني أنه الخاشع في صلاته، قاله ابن شهاب.
الثالث أنه القائم في صلاته، قاله يحيى ابن سلام.
الرابع أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل} وروي عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل أي الصلاة أفضل؟ فقال: {طول القنوت} وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام.
وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال: ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن.
وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين. قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع: قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا؟ فقلت: كنت أتزين قال: فالله أحق أن تتزين له. واختلف في تعيين القانت ها هنا، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال ابن عمر: هو عثمان رضي الله عنه.
وقال مقاتل: إنه عمار بن ياسر. الكلبي: صهيب وأبو ذر وابن مسعود. وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال. {آناءَ اللَّيْلِ} قال الحسن: ساعاته، أوله وأوسطه وآخره. وعن ابن عباس: {آناءَ اللَّيْلِ} جوف الليل. قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.
وقيل: ما بين المغرب والعشاء. وقول الحسن عام. {يحذر الآخرة} قال سعيد بن جبير: أي عذاب الآخرة. {وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي نعيم الجنة. وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا متمن. ولا يقف على قوله: {رَحْمَةَ رَبِّهِ} من خفف {أمن هو قانت} على معنى النداء، لأن قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر، على ما تقدم بيانه. قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي.
وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. {إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} أي أصحاب العقول من المؤمنين.
{قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)}
قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أي اتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم.
وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ} يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة.
وقيل: المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائد في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري: والأول أصح، لأن الكافر قد نال نعم الدنيا. قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء. {وأرض الله واسعة} فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في النساء وقيل: المراد أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها، كما قال: {عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] والجنة قد تسمى أرضا، قال الله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ} [الزمر: 74] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي: يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق، لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه، لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان. قلت: فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم. {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} أي بغير تقدير.
وقيل: يزاد على الثواب، لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب.
وقيل: {بِغَيْرِ حِسابٍ} أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و{الصَّابِرُونَ} هنا الصائمون، دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل: «الصوم لي وأنا أجزي به» قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا، وحكي عن علي رضي الله عنه.
وقال مالك بن أنس في قوله: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم.
وقال قتادة: لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان، حدثني أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل». وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال سمعت جدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أد الفرائض تكن من أعبد الناس وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا» ثم تلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}. ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا، قال النحاس. وقد مضى في البقرة مستوفى.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} تقدم أول السورة وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الامة، وكذلك كان فانه كان أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واللام في قوله: {لِأَنْ أَكُونَ} صلة زائدة، قاله الجرجاني وغيره.
وقيل: لام أجل.
وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة {لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}. يريد عذاب يوم القيامة. وقاله حين دعاه قومه إلى دين آبائه، قال أكثر أبو حمزة الثمالي وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} {اللَّهَ} نصب ب {أَعْبُدُ}، {مخلصا له ديني} طاعتي وعبادتي. {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أمر تهديد ووعيد وتوبيخ، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. وقيل بآية السيف. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه واهلة. في رواية عن ابن عباس فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له ذلك، المنزل والأهل الا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} [المؤمنون: 10]. قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} سمى ما تحتهم ظللا، لأنها تظل من تحتهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} [الأعراف: 41] وقوله: {يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]. {ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ} قال ابن عباس: أولياءه. {يا عِبادِ فَاتَّقُونِ} أي يا أوليائي فخافون.
وقيل: هو عام في المؤمن والكافر.
وقيل: خاص بالكفار.
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها} قال الأخفش: الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثه. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان.
وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان.
وقيل: إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت.
وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، و{أن} في موضع نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت. {وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ} أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. {لَهُمُ الْبُشْرى} في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم، سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به.
وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به.
وقيل: يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص.
وقيل: يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو.
وقيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام {لا إله إلا الله}.
وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. {أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} لما يرضاه. {وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}
قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله: {أَفَأَنْتَ} تأكيدا لطول الكلام، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] على ما تقدم. والمعنى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ} أفأنت تنقذه. والكلام شرط وجوابه. وجئ بالاستفهام، ليدل على التوقيف والتقرير.
وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب. والمعنى واحد.
وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، وما بعده مستأنف وقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ} وقال في موضع آخر: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ} [الزمر: 71] لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث، على أن التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول، أي أفمن حق عليه قول العذاب.
{لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)}
قوله تعالى: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و{لكِنِ} ليس للاستدرار، لأنه لم يأت نفي كقوله: ما رأيت زيدا لكن عمرا، بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. {غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي هي جامعة لأسباب النزهة. {وَعْدَ اللَّهِ} نصب على المصدر، لأن معنى {لَهُمْ غُرَفٌ} وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ} أي ما وعد الفريقين.