{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)}
قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} تقدم {ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} تقدم أيضا. {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} يعني القيامة، في قول ابن عباس وغيره. وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض.
وقيل: إنه هو الأجل المقدور لكل مخلوق. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} خوفوه {مُعْرِضُونَ} مولون لا هون غير مستعدين له. ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، أي عن إنذارهم ذلك اليوم.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما تعبدون من الأصنام والأنداد من دون الله. {أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي هل خلقوا شيئا من الأرض {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي نصيب {فِي السَّماواتِ} أي في خلق السموات مع الله. {ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا} أي من قبل هذا القرآن.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}. قراءة العامة {أو أثارة} بألف بعد الثاء. قال ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هو خط كانت تخطه العرب في الأرض»، ذكره المهدوي والثعلبي.
وقال ابن العربي: ولم يصح.
وفي مشهور الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك» ولم يصح أيضا. قلت: هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي، خرجه مسلم. وأسند النحاس: حدثنا محمد بن أحمد يعرف بالجرايجي قال حدثنا محمد بن بندار قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل: {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: «الخط» وهذا صحيح أيضا. قال ابن العربي: واختلفوا في تأويله، فمنهم من قال: جاء لاباحة الضرب، لان بعض الأنبياء كان يفعله.
ومنهم من قال جاء للنهي عنه، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فمن وافق خطه فذاك» ولا سبيل إلى معرفة طريق النبي المتقدم فيه، فإذا لا سبيل إلى العمل به. قال:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصا *** ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب، فيدل ما يخرج منها على ما تدل عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحل بهم، فصار ظنا مبنيا على ظن، وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه وفات تحقيقه، وقد نهت الشريعة عنه، وأخبرت أن ذلك مما اختص الله به، وقطعه عن الخلق، وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الأشياء المغيبة، فإن الله قد رفع تلك الأسباب وطمس تيك الأبواب وأفرد نفسه بعلم الغيب، فلا يجوز مزاحمته في ذلك، ولا يحل لاحد دعواه. وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهي، فإذ وقد ورد النهي فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب. قلت: ما اختاره هو قول الخطابي. قال الخطابي: قوله عليه السلام: «فمن وافق خطه فذاك» هذا يحتمل الزجر إذ كان ذلك علما لنبوته وقد انقطعت، فنهينا عن التعاطي لذلك. قال القاضي عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة- فإنما معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم.
وحكى مكي في تفسير قوله: «كان نبي من الأنبياء يخط» أنه كان يخط بإصبعه السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر.
وقال ابن عباس في تفسير قوله: «ومنا رجال يخطون» هو الخط الذي يخطه الحازي.
فيعطى حلوانا فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الأستاذ خطوطا معجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط فهو علامة الخيبة. والعرب تسميه الأسحم وهو مشئوم عندهم.
الثالثة: قال ابن العربي: إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها، وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل، وأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما يريد من الامر إذا كان حسنا، فإن سمع مكروها فهو تطير، أمره الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضي على أمره مسرورا. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك». وقد روى بعض الأدباء:
الفأل والزجر والكهان كلهم *** مضللون ودون الغيب أقفال
وهذا كلام صحيح، إلا في الفأل فإن الشرع استثناه وأمر به، فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه، فإنه تكلم بجهل، وصاحب الشرع أصدق وأعلم وأحكم. قلت: قد مضى في الطيرة والفأل وفي الفرق بينهما ما يكفي في المائدة وغيرها. ومضى في الأنعام أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب، وأن أحدا لا يعلم ذلك إلا ما أعلمه الله، أو يجعل على ذلك دلالة عادية يعلم بها ما يكون على جري العادة، وقد يختلف. مثاله إذا رأى نخلة قد أطلعت فإنه يعلم أنها ستثمر، وإذا رآها قد تناثر طلعها علم أنها لا تثمر. وقد يجوز أن يأتي عليها آفة تهلك ثمرها فلا تثمر، كما أنه جائز أن تكون النخلة التي تناثر طلعها يطلع الله فيها طلعا ثانيا فتثمر. وكما أنه جائز أيضا ألا يلي شهره شهر ولا يومه يوم إذا أراد الله إفناء العالم ذلك الوقت. إلى غير ذلك مما تقدم في الأنعام بيانه.
الرابعة: قال ابن خويز منداد: قوله تعالى: {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} يريد الخط. وقد كان مالك رحمه الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه. وإذا عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه حكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير. وقد روي عنه أنه قال: يحدث الناس فجورا فتحدث لهم أقضيه. فأما إذا شهد الشهود على الخط المحكوم به، مثل أن يشهدوا أن هذا خط الحاكم وكتابه، أشهدنا على ما فيه وإن لم يعلموا ما في الكتاب. وكذلك الوصية أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه ونحو ذلك- فلا يختلف مذهبه أنه يحكم به.
وقيل: {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أو بقية من علم، قاله ابن عباس والكلبي وأبو بكر بن عياش وغيرهم.
وفي الصحاح {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} بقية منه. وكذلك الأثرة بالتحريك. ويقال: سمنت الإبل على أثارة، أي بقية شحم كان قبل ذلك. وأنشد الماوردي والثعلبي قول الراعي:
وذات أثارة أكلت عليها *** نباتا في أكمته ففارا
وقال الهروي: والإثارة والأثر: البقية، يقال: ما ثم عين ولا أثر.
وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} خاصة من علم.
وقال مجاهد: رواية تأثرونها عمن كان قبلكم.
وقال عكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء.
وقال القرظي: هو الاسناد. الحسن: المعنى شيء يثار أو يستخرج.
وقال الزجاج: {أَوْ أَثارَةٍ} أي علامة. والإثارة مصدر كالسماحة والشجاعة. واصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية، يقال: أثرت الحديث آثره أثرا وأثارة وأثرة فأنا آثر، إذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور، أي نقله خلف عن سلف. قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما *** بين للسامع والآثر
ويروى {بين} وقرئ: {أو أثرة} بضم الهمزة وسكون الثاء. ويجوز أن يكون معناه بقية من علم. ويجوز أن يكون معناه شيئا مأثورا من كتب الأولين. والمأثور: ما يتحدث به مما صح سنده عمن تحدث به عنه. وقرأ السلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف، أي خاصة من علم أوتيتموها أو أوثرتم بها على غيركم. وروي عن الحسن أيضا وطائفة {أثرة} مفتوحة الالف ساكنة الثاء، ذكر الأولى الثعلبي والثانية الماوردي.
وحكى الثعلبي عن عكرمة: أو ميراث من علم. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
الخامسة: قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فيه بيان مسالك الادلة بأسرها، فأولها المعقول، وهو قوله تعالى: {
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ} وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد لا يصح أن يدعى من دون الله فإنه لا يضر ولا ينفع. ثم قال: {ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا} فيه بيان أدلة السمع {أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)}
قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل وأجهل {مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} وهي الأوثان. {وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ} يعني لا يسمعون ولا يفهمون، فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم، إذ قد مثلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم.{وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)}
قوله تعالى: {وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ} يريد يوم القيامة. {كانُوا لَهُمْ أَعْداءً} أي هؤلاء المعبودون أعداء الكفار يوم القيامة. فالملائكة أعداء الكفار، والجن والشياطين يتبرءون غدا من عبدتهم، ويلعن بعضهم بعضا. ويجوز أن تكون الأصنام للكفار الذين عبدوها أعداء، على تقدير خلق الحياة لها، دليله قوله تعالى: {تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63].
وقيل: عادوا معبوداتهم لأنهم كانوا سبب هلاكهم، وجحد المعبودون عبادتهم، وهو قوله: {وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ}.
{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} يعني القرآن. {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
}
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} الميم صلة، التقدير: أيقولون افتراه، أي تقوله محمد. وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا. ومعنى الهمزة في {أم} الإنكار والتعجب، كأنه قال: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب. وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا، والضمير للحق، والمراد به الآيات. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على سبيل الفرض. {فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله، فكيف أفتري على الله لأجلكم. {هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تقولونه، عن مجاهد.
وقيل: تخوضون فيه من التكذيب. والإفاضة في الشيء: الخوض فيه والاندفاع. أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه. وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها، ومنه قول الشاعر:
وأفضن بعد كظومهن بجرة وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة. {كَفى بِهِ شَهِيداً} نصب على التمييز. {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون. {وَهُوَ الْغَفُورُ} لمن تاب {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين.{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}
قوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي أول من أرسل، قد كان قبلي رسل، عن ابن عباس وغيره. والبدع: الأول. وقرأ عكرمة وغيره {بدعا} بفتح الدال، على تقدير حذف المضاف، والمعنى: ما كنت صاحب بدع.
وقيل: بدع وبديع بمعنى، مثل نصف ونصيف. وأبدع الشاعر: جاء بالبديع. وشئ بدع بالكسر أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الامر أي بديع. وقوم إبداع، عن الأخفش. وأنشد قطرب قول عدي بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري *** رجالا غدت من بعد بؤسى بأسعد
{وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} [الفتح: 5] الآية. ونزلت {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً} [الأحزاب: 47]. قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأة من الأنصار: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان ابن مظعون بن حذافة بن جمح، فأنزلناه أبياتنا فتوفي، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب! إن الله أكرمك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما يدريك أن الله أكرمه؟» فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ قال: «أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم». قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين. قلت: حديث أم العلاء خرجه البخاري، وروايتي فيه: {وما أدري ما يفعل به} ليس فيه {بِي وَلا بِكُمْ} وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست بمنسوخة، لأنها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمشركين {ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} في الآخرة، ولم يزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الايمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يفعل به وبهم في الآخرة. وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعه أم إلى عذاب وعقاب. والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن {وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدنيا} قال أبو جعفر: وهذا أصح قول وأحسنه، لا يدري صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر. ومثله {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [الأعراف: 188]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى: {وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. ثم قال: «إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي» أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية.
وقيل: المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون. قلت: وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما. قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أما في الآخرة فمعاذ الله! قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يفعل بكم، أأمتي المصدقة أم المكذبة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أو مخسوف بها خسفا، ثم نزلت {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. يقول: سيظهر دينه على الأديان. ثم قال في أمته: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته، ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله.
وقال الضحاك أيضا: {ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي ما تؤمرون به وتنهون عنه.
وقيل: أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين. قلت: وهذا معنى القول الأول، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و{ما} في {ما يُفْعَلُ} يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وقرئ: {يوحى} أي الله عز وجل. تقدم في غير موضع.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني القرآن. {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} قال الشعبي: المراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ} قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: هو عبد الله بن سلام، شهد على اليهود أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مذكور في التوراة، وأنه نبي من عند الله.
وفي الترمذي عنه: ونزلت في آيات من كتاب الله، نزلت في {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وقد تقدم في آخر سورة الرعد.
وقال مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام، لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية. وقال: وقوله: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} مخاطبة لقريش. الشعبي: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، لان ابن سلام إنما أسلم قبل وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعامين، والسورة مكية. قال القشيري: ومن قال الشاهد موسى قال السورة مكية، وأسلم ابن سلام قبل موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعامين. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضعوها في سورة كذا. والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم لي من أوضح الحجج. ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود، ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله، اجعلني حكما بينك وبين اليهود، فسألهم عنه: «أي رجل هو فيكم قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال: إنه قد آمن بي فأساءوا القول فيه» الحديث، وقد تقدم. قال ابن عباس: رضيت اليهود بحكم ابن سلام، وقالت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن يشهد لك آمنا بك، فسئل فشهد ثم أسلم. {عَلى مِثْلِهِ} أي على مثل ما جئتكم به، فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن.
وقال الجرجاني. {مثل} صلة، أي وشهد شاهد عليه أنه من عند الله. {فَآمَنَ} أي هذا الشاهد. {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أنتم عن الايمان. وجواب {إِنْ كانَ} محذوف تقديره: فآمن أتؤمنون، قاله الزجاج.
وقيل: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أليس قد ظلمتم، يبينه {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقيل: {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أفتأمنون عذاب الله. و{أَرَأَيْتُمْ} لفظ موضوع للسؤال والاستفهام، ولذلك لا يقتضي مفعولا.
وحكى النقاش وغيره: أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن هو وكفرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} اختلف في سبب نزولها على ستة أقوال: الأول- أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام بمكة فأجاب، واستجار به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا، فبلغ ذلك قريشا فقالوا: غفار الحلفاء لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل.
الثاني- أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فرد الله عليها بصرها. فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عروة بن الزبير.
الثالث- أن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم إذ نحن أعز منهم، قاله الكلبي والزجاج، وحكاه القشيري عن ابن عباس.
وقال قتادة: نزلت في مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه بلال وصهيب وعمار وفلان وفلان. وهو القول الرابع. القول الخامس- أن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا يعني عبد الله بن سلام وأصحابه: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه، قاله أكثر المفسرين، حكاه الثعلبي.
وقال مسروق: إن الكفار قالوا لو كان خيرا ما سبقتنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية. وهذه المعارضة من الكفار في قولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه من أكبر المعارضات بانقلابها عليهم لكل من خالفهم، حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيرا ما عدلنا عنه، لو كان تكذيبكم للرسول خيرا ما سبقتمونا إليه، ذكره الماوردي. ثم قيل: قوله: {ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} يجوز أن يكون من قول الكفار لبعض المؤمنين، ويجوز أن يكون على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} يعني الايمان. وقيل القرآن. وقيل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي لما لم يصيبوا الهدى بالقرآن ولا بمن جاء به عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا هذا إفك قديم، كما قالوا: أساطير الأولين. وقيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه؟ فقال نعم؟ قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} ومثله {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39].{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي ومن قبل القرآن {كِتابُ مُوسى} أي التوراة {إِماماً} يقتدى بما فيه و{وَرَحْمَةً} من الله.
وفي الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والايمان به فتركوا ذلك. و{إِماماً} نصب على الحال، لان المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما. {وَرَحْمَةً} معطوف عليه.
وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة.
وقال الأخفش: على القطع، لان كتاب موسى معرفة بالإضافة، لان النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. {وَهذا كِتابٌ} يعني القرآن {مُصَدِّقٌ} يعني للتوراة ولما قبله من الكتب.
وقيل: مصدق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {لِساناً عَرَبِيًّا} منصوب على الحال، أي مصدق لما قبله عربيا، و{لِساناً} توطئة للحال أي تأكيد، كقولهم: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر رجلا توكيدا.
وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا.
وقيل: نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره: بلسان عربي.
وقيل: إن لسانا مفعول والمراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه معجزته، والتقدير: مصدق ذا لسان عربي. فاللسان منصوب بمصدق، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويبعد أن يكون اللسان القرآن، لان المعنى يكون يصدق نفسه. {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} قراءة العامة {لِيُنْذِرَ} بالياء خبرا عن الكتاب، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية.
وقيل: هو خبر عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالتاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]. {وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ} {بُشْرى} في موضع رفع، أي وهو بشرى.
وقيل: عطفا على الكتاب، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى. ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى، فلما حذف الخافض نصب.
وقيل: على المصدر، أي وتبشر المحسنين بشرى، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب، كما تقول: أتيتك لازورك، وكرامة لك وقضاء لحقك، يعني لازورك وأكرمك وأقضي حقك، فنصب الكرامة بفعل مضمر.
{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} الآية تقدم معناها.
وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصديق. والآية تعم. {جزاء} نصب على المصدر.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً} بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري.
الثانية: قوله تعالى: {حسنا} قراءة العامة {حسنا} وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون {إِحْساناً} وحجتهم قوله تعالى في سورة الأنعام وبني إسرائيل: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} [الأنعام: 151] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قول تعالى في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8]
ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الامر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.
الثالثة: قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] لان ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون {كرها} بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد، قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين.
وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي قهرا وغصبا، ولهذا قال بعض أهل العربية: إن كرها بفتح الكاف لحن.
الرابعة: قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدها. وقد مضى في البقرة.
وقيل: لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لان الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189]. والفصال الفطام. وقد تقدم في {لقمان} الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما {وفصله} بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا.
وفي الكلام إضمار، أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولولا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.
الخامسة: قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال ابن عباس: ثماني عشرة سنة.
وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن أربعين سنة، صدق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ} الآية.
وقال الشعبي وابن زيد: الأشد الحلم.
وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في الأنعام الكلام في الآية.
وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم.
وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم.
السادسة: قوله تعالى: {قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألهمني. {أَنْ أَشْكُرَ} في موضع نصب على المصدر، أي شكر نعمتك {عَلَيَّ} أي ما أنعمت به علي من الهداية {وَعَلى والِدَيَّ} بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا.
وقيل: أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة.
وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه! أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لاحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وام أبيه أبي قحافة قيلة بالياء المعجمة باثنتين من تحتها. وامرأة أبي بكر الصديق اسمها قتيلة بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها بنت عبد العزى. {وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ} قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة».
السابعة: قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر.
وقال سهل بن عبد الله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق.
وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك.
وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم.
وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا.
وقال مالك بن مغول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الامر الذي كنت عليه. {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي المخلصين بالتوحيد.