{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)}
اختلف في هذا الفتح ما هو؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية.
وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية.
وقال الفراء: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا نعد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر.
وقال الضحاك: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} بغير قتال. وكان الصلح من الفتح.
وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال: كان فتح الحديبية آية عظيمة، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه.
وقال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا».
وقال الشعبي في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: هو فتح الحديبية، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال الزهري: لقد كان الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف.
وقال مجاهد أيضا والعوفي: هو فتح خبير. والأول أكثر، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} [الفتح: 10] وقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} [الفتح: 20].
وقال مجمع بن جارية- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن-: شهدنا الحديبية مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فخرجنا نوجف فوجدنا نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال عمر بن الخطاب: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية».
وقيل: إن قوله تعالى: {فَتْحاً} يدل على أن مكة فتحت عنوة، لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال: فتح البلد صلحا، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح، فصار الفتح في الصلح مجازا. والاخبار دالة على أنها فتحت عنوة، وقد مضى القول فيها، ويأتي.
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)}
قال ابن الأنباري: فَتْحاً مُبِيناً غير تام، لان قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ} متعلق بالفتح. كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة.
وقال أبو حاتم السجستاني: هي لام القسم. وهذا خطأ، لان لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الاربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب.
وفي الترمذي عن أنس قال: أنزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض». ثم قرأها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا يا وسول الله، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً} قال حديث حسن صحيح. وفية عن مجمع ابن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} فقيل: {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة. {وَما تَأَخَّرَ} بعدها، قاله مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري، قال الطبري: هو راجع إلى قوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى قوله: {تَوَّاباً} [النصر: 3- 1]. {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة {وَما تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه الآية وقال سفيان الثوري: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك. {وَما تَأَخَّرَ} كل شيء لم تعمله، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الأنبياء في سورة البقرة، فهذا قول.
وقيل:
{ما تَقَدَّمَ} قبل الفتح. {وَما تَأَخَّرَ} بعد الفتح.
وقيل: {ما تَقَدَّمَ} قبل نزول هذه الآية. {وَما تَأَخَّرَ} بعدها.
وقال عطاء الخراساني: {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني من ذنب أبويك آدم وحواء. {وَما تَأَخَّرَ} من ذنوب أمتك.
وقيل: من ذنب أبيك إبراهيم. {وَما تَأَخَّرَ} من ذنوب النبيين.
وقيل: {ما تَقَدَّمَ} من ذنب يوم بدر. {وَما تَأَخَّرَ} من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر، أنه جعل يدعو ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا» وجعل يردد هذا القول دفعات، فأوحى الله إليه من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان: «ناولاني كفا من حصباء الوادي فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون فانهزم القوم عن آخرهم، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم: لو لم ارمهم لم ينهزموا» فأنزل الله عز وجل: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} [الأنفال: 17] فكان هذا هو الذنب المتأخر.
وقال أبو علي الروذباري: يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك. قوله تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قال ابن عباس: في الجنة.
وقيل: بالنبوة والحكمة.
وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر.
وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. {وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)}
{السكينة}: السكون والطمأنينة. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة. وتقدم معنى زيادة الايمان في آل عمران.
وقال ابن عباس: بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله: {لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ} أي تصديقا بشرائع الايمان مع تصديقهم بالايمان.
وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم.
وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد الملائكة والجن والشياطين والانس {وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً} بأحوال خلقه {حَكِيماً} فيما يريده.
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)}
أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة.
وقيل: اللام في {ليدخل} يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}. {وَكانَ ذلِكَ} أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. {عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} أي نجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب.
وقيل: لما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ فنزل {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ} ولما قرأ {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قالوا: هنيئا لك، فنزلت {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فلما قرأ {وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} نزل في حق الامة {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح: 2]. ولما قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح: 3] نزل {كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وهو كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. ثم قال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] ذكره القشيري.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)}
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ} أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} يعني ظنهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} [الفتح: 12].
وقال الخليل وسيبويه: {السَّوْءِ} هنا الفساد. {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، وفي الآخرة جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دائِرَةُ السَّوْءِ} بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري: ساءه يسوءه سوءا بالفتح ومساءة ومساية، نقيض سره، والاسم السوء بالضم. وقرئ: {عليهم دائرة السوء} يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} تقدم في غير موضع جميعه، والحمد لله.
وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبي: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو، فأين فارس والروم! فبين الله عز وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.
وقيل: يدخل فيه جميع المخلوقات.
وقال ابن عباس: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ} الملائكة. وجنود الأرض المؤمنون. وأعاد لان الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.
{إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً} قال قتادة: على أمتك بالبلاغ.
وقيل: شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية.
وقيل: مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم.
وقيل: شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في {النساء} عن سعيد بن جبير هذا المعنى مبينا. {وَمُبَشِّراً} لمن أطاعه بالجنة. {وَنَذِيراً} من النار لمن عصى، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في البقرة اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما. وانتصب {شاهدا ومبشرا ونذيرا} على الحال المقدرة. حكى سيبويه: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، فالمعنى: إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول: رأيت عمرا قائما غدا. {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو {ليؤمنوا} بالياء، وكذلك {يعزروه ويوقروه ويسبحوه} كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده، فأما قبله فقوله: {لِيُدْخِلَ} وأما بعده فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ} [الفتح: 10] الباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. {وَتُعَزِّرُوهُ} أي تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي. والتعزير: التعظيم والتوقير.
وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لأنه مانع. قال القطامي:
ألا بكرت مي بغير سفاهة *** تعاتب والمودود ينفعه العزر
وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف.
وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه. {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تسودوه، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحوا الله {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي عشيا.
وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو {وَتُسَبِّحُوهُ} من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي {تُسَبِّحُوهُ} وجهان: أحدهما- تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني- هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول فيه.
وقال الشاعر:
لعمري لانت البيت أكرم أهله *** وأجلس في أفيائه بالاصائل
{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ} بالحديبية يا محمد. {إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} بين أن بيعتهم لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة.
وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة.
وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. {فَمَنْ نَكَثَ} بعد البيعة. {فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} أي يرجع ضرر النكث عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. {وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يعني في الجنة. وقرأ حفص والزهري {عليه} بضم الهاء. وجرها الباقون. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {فسنؤتيه} بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقرب اسم الله منه.
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)}
قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ} قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الاعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال: {الْمُخَلَّفُونَ} لان الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في {براءة}. {شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا} أي ليس لنا من يقوم بهما. {فَاسْتَغْفِرْ لَنا} جاءوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وهذا هو النفاق المحض. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا} قرأ حمزة والكسائي {ضرا} بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم.
وقال ابن عباس: الهزيمة.
الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر.
وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف. {أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)}
قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. {وَزُيِّنَ ذلِكَ} أي النفاق. {فِي قُلُوبِكُمْ} وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} أن الله لا ينصر رسوله. {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى، قاله مجاهد.
وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبد الله بن الزبعري السهمي:
يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور
وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه.
وقيل: {بُوراً} أشرارا، قاله ابن بحر.
وقال حسان بن ثابت:
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد *** يهدي الاله سبيل المعشر البور
أي الهالك.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)}
وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)}
أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)}
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها} يعني مغانم خيبر، لان الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. {ذرونا نتبعكم} أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره، لا يقال: وذره ولا وأذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واخذ قوما ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة.
وقيل: المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح، قاله مجاهد وقتادة، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرأ حمزة والكسائي {كلم} بإسقاط الالف وكسر اللام جمع كلمة، نحو سلمة وسلم. الباقون {كلام} على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اعتبارا بقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144]. والكلام: ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: هذا باب علم ما الكلم من العربية ولم يقل ما الكلام، لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء: الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعا، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول: هي كلمة، بكسر الكاف، وقد مضى في {براءة} القول فيها. {كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم». فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} فقال الله تعالى: {بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا.
وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال.{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ} أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية. {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس.
وقال كعب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى: الروم. وعن الحسن أيضا: فارس والروم.
وقال ابن جبير: هوازن وثقيف.
وقال عكرمة: هوازن.
وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين.
وقال الزهري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة.
وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم.
وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده.
الثانية: في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لان أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه قال: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين.
أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على {تُقاتِلُونَهُمْ} أي يكون أحد الأمرين، إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
وفي حرف أبي {أو يسلموا} بمعنى حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، أي حتى تشبع. قال:
فقلت له لا تبك عينك إنما *** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وقال الزجاج: قال: {أَوْ يُسْلِمُونَ} لان المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب.
الرابعة: قوله تعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} عام الحديبية. {يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} وهو عذاب النار.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)}
قال ابن عباس: لما نزلت {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في {براءة} وغيرها الكلام فيه مبينا. والعرج: آفة تعرض لرجل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر.
وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمره. {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} قرأ نافع وابن عامر {ندخله} بالنون على التعظيم. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا. {وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً}.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)}
قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذا خبر الحديبية على اختصار: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا، واستنفر الاعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة.
وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الهدي، فأحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم فورد الخبر بذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعسفان وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد، جرت إلى قريش تعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية بركت ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الناس: خلات! خلات! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما خلات وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها». ثم نزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هناك، فقيل: «يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء! فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء» حتى كفى جميع الجيش.
وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ.
وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب، ثم جرت السفراء بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه: «اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه» فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد! فلا بد أن تكتب: باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح: «امح يا علي، واكتب باسمك اللهم» فأبى علي أن يمحو بيده مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعرضه علي فأشار إليه فمحاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأمره أن يكتب من محمد بن عبد الله وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر أبا جندل: «أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا». وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها. وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي.
وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت. وعنه أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة.
وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وعن البراء بن عازب قال: «كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: امحه. فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده». وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح. قلت لأبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. فقال: اكتب من محمد رسول الله قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك! ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكتب من محمد بن عبد الله فاشترطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا! قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا». وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى قال. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا قال: فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا بن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: نعم، فطابت نفسه ورجع». قوله تعالى: {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء، قاله الفراء.
وقال ابن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا.
وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} حتى بايعوا وقيل: {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله على وسلم عنهم، إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما ذلك رؤيا منام».
وقال الصديق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. {وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} قال قتادة وابن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرئ: {وآتاهم} {وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها} يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. ف {مَغانِمَ} على هذا بدل من {فَتْحاً قَرِيباً} والواو مقحمة.
وقيل: {وَمَغانِمَ} فارس والروم.