همس الحياه
همس الحياه
همس الحياه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

همس الحياه

موقع اسلامى و ترفيهى
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالمنشوراتالتسجيلدخول

 

  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

 تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48) Empty
مُساهمةموضوع: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48)    تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 1:23 pm

{إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)}
اختلف في هذا الفتح ما هو؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية.
وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية.
وقال الفراء: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا نعد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر.
وقال الضحاك: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} بغير قتال. وكان الصلح من الفتح.
وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال: كان فتح الحديبية آية عظيمة، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه.
وقال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا».
وقال الشعبي في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: هو فتح الحديبية، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال الزهري: لقد كان الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف.
وقال مجاهد أيضا والعوفي: هو فتح خبير. والأول أكثر، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} [الفتح: 10] وقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} [الفتح: 20].
وقال مجمع بن جارية- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن-: شهدنا الحديبية مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فخرجنا نوجف فوجدنا نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال عمر بن الخطاب: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية».
وقيل: إن قوله تعالى: {فَتْحاً} يدل على أن مكة فتحت عنوة، لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال: فتح البلد صلحا، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح، فصار الفتح في الصلح مجازا. والاخبار دالة على أنها فتحت عنوة، وقد مضى القول فيها، ويأتي.

{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)}
قال ابن الأنباري: فَتْحاً مُبِيناً غير تام، لان قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ} متعلق بالفتح. كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة.
وقال أبو حاتم السجستاني: هي لام القسم. وهذا خطأ، لان لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الاربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب.
وفي الترمذي عن أنس قال: أنزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض». ثم قرأها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا يا وسول الله، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً} قال حديث حسن صحيح. وفية عن مجمع ابن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} فقيل: {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة. {وَما تَأَخَّرَ} بعدها، قاله مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري، قال الطبري: هو راجع إلى قوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى قوله: {تَوَّاباً} [النصر: 3- 1]. {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة {وَما تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه الآية وقال سفيان الثوري: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك. {وَما تَأَخَّرَ} كل شيء لم تعمله، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الأنبياء في سورة البقرة، فهذا قول.
وقيل:
{ما تَقَدَّمَ} قبل الفتح. {وَما تَأَخَّرَ} بعد الفتح.
وقيل: {ما تَقَدَّمَ} قبل نزول هذه الآية. {وَما تَأَخَّرَ} بعدها.
وقال عطاء الخراساني: {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني من ذنب أبويك آدم وحواء. {وَما تَأَخَّرَ} من ذنوب أمتك.
وقيل: من ذنب أبيك إبراهيم. {وَما تَأَخَّرَ} من ذنوب النبيين.
وقيل: {ما تَقَدَّمَ} من ذنب يوم بدر. {وَما تَأَخَّرَ} من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر، أنه جعل يدعو ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا» وجعل يردد هذا القول دفعات، فأوحى الله إليه من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان: «ناولاني كفا من حصباء الوادي فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون فانهزم القوم عن آخرهم، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم: لو لم ارمهم لم ينهزموا» فأنزل الله عز وجل: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} [الأنفال: 17] فكان هذا هو الذنب المتأخر.
وقال أبو علي الروذباري: يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك. قوله تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قال ابن عباس: في الجنة.
وقيل: بالنبوة والحكمة.
وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر.
وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. {وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)}
{السكينة}: السكون والطمأنينة. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة. وتقدم معنى زيادة الايمان في آل عمران.
وقال ابن عباس: بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله: {لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ} أي تصديقا بشرائع الايمان مع تصديقهم بالايمان.
وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم.
وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: يريد الملائكة والجن والشياطين والانس {وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً} بأحوال خلقه {حَكِيماً} فيما يريده.
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)}
أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة.
وقيل: اللام في {ليدخل} يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}. {وَكانَ ذلِكَ} أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. {عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} أي نجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب.
وقيل: لما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا لنا؟ فنزل {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ} ولما قرأ {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قالوا: هنيئا لك، فنزلت {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فلما قرأ {وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} نزل في حق الامة {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح: 2]. ولما قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح: 3] نزل {كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وهو كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. ثم قال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] ذكره القشيري.

{وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)}
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ} أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} يعني ظنهم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} [الفتح: 12].
وقال الخليل وسيبويه: {السَّوْءِ} هنا الفساد. {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ} في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، وفي الآخرة جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دائِرَةُ السَّوْءِ} بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري: ساءه يسوءه سوءا بالفتح ومساءة ومساية، نقيض سره، والاسم السوء بالضم. وقرئ: {عليهم دائرة السوء} يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} تقدم في غير موضع جميعه، والحمد لله.
وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبي: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو، فأين فارس والروم! فبين الله عز وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.
وقيل: يدخل فيه جميع المخلوقات.
وقال ابن عباس: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ} الملائكة. وجنود الأرض المؤمنون. وأعاد لان الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (Cool لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً} قال قتادة: على أمتك بالبلاغ.
وقيل: شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية.
وقيل: مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم.
وقيل: شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في {النساء} عن سعيد بن جبير هذا المعنى مبينا. {وَمُبَشِّراً} لمن أطاعه بالجنة. {وَنَذِيراً} من النار لمن عصى، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في البقرة اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما. وانتصب {شاهدا ومبشرا ونذيرا} على الحال المقدرة. حكى سيبويه: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، فالمعنى: إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول: رأيت عمرا قائما غدا. {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو {ليؤمنوا} بالياء، وكذلك {يعزروه ويوقروه ويسبحوه} كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده، فأما قبله فقوله: {لِيُدْخِلَ} وأما بعده فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ} [الفتح: 10] الباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. {وَتُعَزِّرُوهُ} أي تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي. والتعزير: التعظيم والتوقير.
وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لأنه مانع. قال القطامي:
ألا بكرت مي بغير سفاهة *** تعاتب والمودود ينفعه العزر
وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف.
وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه. {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تسودوه، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحوا الله {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي عشيا.
وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو {وَتُسَبِّحُوهُ} من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي {تُسَبِّحُوهُ} وجهان: أحدهما- تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني- هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول فيه.
وقال الشاعر:
لعمري لانت البيت أكرم أهله *** وأجلس في أفيائه بالاصائل
{إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ} بالحديبية يا محمد. {إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} بين أن بيعتهم لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة.
وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة.
وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. {فَمَنْ نَكَثَ} بعد البيعة. {فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} أي يرجع ضرر النكث عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. {وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يعني في الجنة. وقرأ حفص والزهري {عليه} بضم الهاء. وجرها الباقون. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {فسنؤتيه} بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقرب اسم الله منه.

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)}
قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ} قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الاعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال: {الْمُخَلَّفُونَ} لان الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في {براءة}. {شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا} أي ليس لنا من يقوم بهما. {فَاسْتَغْفِرْ لَنا} جاءوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وهذا هو النفاق المحض. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا} قرأ حمزة والكسائي {ضرا} بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم.
وقال ابن عباس: الهزيمة.
الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر.
وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف. {أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع.

{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)}
قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. {وَزُيِّنَ ذلِكَ} أي النفاق. {فِي قُلُوبِكُمْ} وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} أن الله لا ينصر رسوله. {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى، قاله مجاهد.
وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبد الله بن الزبعري السهمي:
يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور
وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه.
وقيل: {بُوراً} أشرارا، قاله ابن بحر.
وقال حسان بن ثابت:
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد *** يهدي الاله سبيل المعشر البور
أي الهالك.
{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)}
وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق.

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)}
أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)}
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها} يعني مغانم خيبر، لان الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. {ذرونا نتبعكم} أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره، لا يقال: وذره ولا وأذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واخذ قوما ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة.
وقيل: المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح، قاله مجاهد وقتادة، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرأ حمزة والكسائي {كلم} بإسقاط الالف وكسر اللام جمع كلمة، نحو سلمة وسلم. الباقون {كلام} على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اعتبارا بقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144]. والكلام: ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: هذا باب علم ما الكلم من العربية ولم يقل ما الكلام، لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء: الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعا، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول: هي كلمة، بكسر الكاف، وقد مضى في {براءة} القول فيها. {كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم». فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا} فقال الله تعالى: {بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا.
وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال.{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ} أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية. {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس.
وقال كعب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى: الروم. وعن الحسن أيضا: فارس والروم.
وقال ابن جبير: هوازن وثقيف.
وقال عكرمة: هوازن.
وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين.
وقال الزهري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة.
وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم.
وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده.
الثانية: في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لان أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه قال: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين.
أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على {تُقاتِلُونَهُمْ} أي يكون أحد الأمرين، إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
وفي حرف أبي {أو يسلموا} بمعنى حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، أي حتى تشبع. قال:
فقلت له لا تبك عينك إنما *** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وقال الزجاج: قال: {أَوْ يُسْلِمُونَ} لان المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب.
الرابعة: قوله تعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} عام الحديبية. {يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} وهو عذاب النار.

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)}
قال ابن عباس: لما نزلت {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في {براءة} وغيرها الكلام فيه مبينا. والعرج: آفة تعرض لرجل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر.
وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمره. {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} قرأ نافع وابن عامر {ندخله} بالنون على التعظيم. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا. {وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً}.

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)}
قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذا خبر الحديبية على اختصار: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا، واستنفر الاعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة.
وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الهدي، فأحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم فورد الخبر بذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعسفان وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد، جرت إلى قريش تعلمهم بذلك، فلما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية بركت ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الناس: خلات! خلات! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما خلات وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها». ثم نزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هناك، فقيل: «يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء! فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء» حتى كفى جميع الجيش.
وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ.
وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب، ثم جرت السفراء بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه: «اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه» فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد! فلا بد أن تكتب: باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح: «امح يا علي، واكتب باسمك اللهم» فأبى علي أن يمحو بيده مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعرضه علي فأشار إليه فمحاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأمره أن يكتب من محمد بن عبد الله وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر أبا جندل: «أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا». وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها. وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي.
وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت. وعنه أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة.
وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية؟ قال: على الموت. وعن البراء بن عازب قال: «كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: امحه. فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده». وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح. قلت لأبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. فقال: اكتب من محمد رسول الله قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك! ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكتب من محمد بن عبد الله فاشترطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا! قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا». وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى قال. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا قال: فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا بن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: نعم، فطابت نفسه ورجع». قوله تعالى: {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء، قاله الفراء.
وقال ابن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا.
وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} حتى بايعوا وقيل: {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ} من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله على وسلم عنهم، إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما ذلك رؤيا منام».
وقال الصديق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. {وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} قال قتادة وابن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرئ: {وآتاهم} {وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها} يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. ف {مَغانِمَ} على هذا بدل من {فَتْحاً قَرِيباً} والواو مقحمة.
وقيل: {وَمَغانِمَ} فارس والروم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

 تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48) Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48)    تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 1:27 pm

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)}
قوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها} قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة.
وقال ابن زيد: هي مغانم خيبر. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ} أي خيبر، قاله مجاهد.
وقال ابن عباس: عجل لكم صلح الحديبية. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني أهل مكة، كفهم عنكم بالصلح.
وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري، لان كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح: 24].
وقال ابن عباس: في {كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني عيينة بن حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاصر لهم، فألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آية للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم.
وقيل: أي ولتكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين.
وقيل: أي ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها. والواو في {وَلِتَكُونَ} مقحمة عند الكوفيين.
وقال البصريون: عاطفة على مضمر، أي وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين. {وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي يزيدكم هدى، أو يثبتكم على الهداية.

{وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)}
قوله تعالى: {وَأُخْرى} {أخرى} معطوفة على {هذِهِ}، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى. {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} قال ابن عباس: هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، كأرض فارس والروم، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة: هو فتح مكة.
وقال عكرمة: حنين، لأنه قال: {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها}. وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة، قاله القشيري.
وقال مجاهد: هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى {قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي قد أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم.
وقيل: {أَحاطَ اللَّهُ بِها} علم أنها ستكون لكم، كما قال: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12].
وقيل: حفظها الله عليكم. ليكون فتحها لكم. {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.

{وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)}
قوله تعالى: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ} قال قتادة: يعني كفار قريش في الحديبية.
وقيل: {وَلَوْ قاتَلَكُمُ} غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، لكانت الدائرة عليهم. {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب {سُنَّةَ}
على المصدر.
وقيل: {سُنَّةَ اللَّهِ} أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها *** فأول راض سنة من يسيرها
والسنة أيضا: ضرب من تمر المدينة. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} وهي الحديبية. {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأخذناهم سلما فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}.
وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا». قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية.
وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه.
وقال مجاهد: أقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذلك الاظفار ببطن مكة.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل لكم علي ذمة»؟ قالوا لا؟ فأرسلهم فنزلت.
وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع؟ فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد بن الوليد: «هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة». فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر.
وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين فلحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل.
وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد. {بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه قولان: أحدهما- يريد به مكة.
الثاني- الحديبية، لان بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل: {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}. قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين.
وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الاخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في الحج وغيرها. {وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)}
قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}. فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الانس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيانه ووعده.
الثانية: قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} أي محبوسا. وقيل موقوفا.
وقال أبو عمرو ابن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً}، يقال: ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي منحره، قاله الفراء.
وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل بكسر الحاء: غاية الشيء. وبالفتح: هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في البقرة عند قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} والصحيح ما ذكرناه.
وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة.
وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. وراي كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال: «أيؤذيك هوامك»؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في البقرة.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ} الهدى والهدى لغتان. وقرئ: {حتى يبلغ الهدي محله} بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في البقرة أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من {صَدُّوكُمْ}. و{مَعْكُوفاً} حال، وموضع {أَنْ} من قوله: {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} نصب على تقدير الحمل على {صَدُّوكُمْ} أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لأنا لا نعلم {عكف} جاء متعديا، ومجيء {مَعْكُوفاً} في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حما الرفث على معنى الإفضاء فعدى بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرا على قياس قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في {أن} لان عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي {عن} أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره. قوله تعالى: {وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ} يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة أبي جندل بن سهيل، وأشباههم. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. {أَنْ تَطَؤُهُمْ} بالقتل والإيقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و{أن} يجوز أن يكون رفعا على البدل من {رجال} {ونساء} كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في {تَعْلَمُوهُمْ}، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} نعت ل {رجال} و{نساء}. وجواب {لَوْ لا} محذوف، والتقدير: ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لاذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه خوفا.
وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطئوا آباءهم فتهلك أبناؤهم.
الثانية: قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم.
وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لان الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله: {فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى في {النساء} القول فيه.
وقال ابن زيد: {مَعَرَّةٌ} إثم.
وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم.
الثالثة: قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان عليه السلام في قولها: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]. قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} اللام في {لِيُدْخِلَ} متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالايمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين، لان الجميع يدخلون في الرحمة.
وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته.
الثانية: قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي تميزوا، قاله القتبي.
وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي.
وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال: «هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما».
الثالثة: هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذائه الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكا وسيل عن قوم من المشركين في مراكبهم أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لأهل مكة: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً}. وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والديه على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لان من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال: {وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ} وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة.
وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية.
وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم. قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الامة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الامة. ومعنى كونها قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لان الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

 تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48) Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48)    تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 1:28 pm

الرابعة: قراءة العامة {لَوْ تَزَيَّلُوا} إلا أبا حيوة فإنه قرأ {تزايلوا} وهو مثل {تزيلوا} في المعنى. والتزايل: التباين. و{تزيلوا} تفعلوا، من زلت.
وقيل: هي تفيعلوا. {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما: {لَوْلا رِجالٌ} والثاني: {لَوْ تَزَيَّلُوا}. وقيل جواب {لَوْلا} محذوف، وقد تقدم. {ولَوْ تَزَيَّلُوا} ابتداء كلام.

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)}
العامل في {إِذْ} قوله تعالى: {لَعَذَّبْنَا} أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. {الْحَمِيَّةَ} فعيلة وهي الأنفة. يقال: حميت عن كذا حمية بالتشديد ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس:
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم *** كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما
أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم.
وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها.
وقيل: {حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ} إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أي الطمأنينة والوقار. {عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى} قيل لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقاله عطاء الخراساني، وزاد {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}. وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر.
وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و{كَلِمَةَ التَّقْوى} هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن {كَلِمَةَ التَّقْوى} الإخلاص. {وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها} أي أحق بها من كفار مكة، لان الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. {وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)}
قال قتادة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق.
وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. {لَتَدْخُلُنَّ} أي في العام القابل {الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ} قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24- 23].
وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}.
وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب.
وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل.
وقيل: الاستثناء من {آمِنِينَ}، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة.
وقيل: معنى {إِنْ شاءَ اللَّهُ} إن أمركم الله بالدخول.
وقيل: أي إن سهل الله.
وقيل: {إِنْ شاءَ اللَّهُ} أي كما شاء الله.
وقال أبو عبيدة: {إن} بمعنى {إذ}، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] أي إذ كنتم. وفية بعد، لان {إذ} في الماضي من الفعل، و{إذا} في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ}. وإنما قيل له في المنام {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ} فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و{لَتَدْخُلُنَّ} تحقيق فكيف يكون شك. ف {إن} بمعنى {إذا}. {آمِنِينَ} أي من العدو. {
مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} والتحليق والتقصير جميعا للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في البقرة.
وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلق في حجته. {لا تَخافُونَ} حال من المحلقين والمقصرين، والتقدير: غير خائفين. {فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا} أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر واخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوه وعدة بأضعاف ذلك.
وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم.
وقيل: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم. {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي من دون رؤيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح خيبر، قاله ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة.
وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه.
وقيل: أي ليظهر رسوله على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه. {وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} {شَهِيداً} نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات.
وقيل: {شَهِيداً} على ما أرسل به، لان الكفار أبو اأن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} {مُحَمَّدٌ} مبتدأ و{رسول} خبره.
وقيل: {محمد} ابتداء و{رَسُولُ اللَّهِ} نعته. {وَالَّذِينَ مَعَهُ} عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده، فلا يوقف على هذا التقدير على {رَسُولُ اللَّهِ}. وعلى الأول يوقف على {رَسُولُ اللَّهِ}، لان صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف به أصحابه، فيكون {محمد} ابتداء و{رَسُولُ اللَّهِ} الخبر {وَالَّذِينَ مَعَهُ} ابتداء ثان. و{أَشِدَّاءُ} خبره و{رُحَماءُ} خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأشبه. قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار، أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته.
وقيل: المراد ب {الَّذِينَ مَعَهُ} جميع المؤمنين. {رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} أي يرحم بعضهم بعضا.
وقيل:
متعاطفون متوادون. وقرأ الحسن {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. {تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} إخبار عن كثرة صلاتهم. {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً} أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى.
الثانية: قوله تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} السيما العلامة، وفيها لغتان: المد والقصر، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر.
وفي سنن ابن ماجه قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».
وقال ابن العربي: ودسه قوم في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه الغلط، وليس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ذكر بحرف. وقد روى ابن وهب عن مالك {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود، وبه قال سعيد بن جبير.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش، فانصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين.
وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضا، ورواه العوفي عن ابن عباس، قاله الزهري.
وفي الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي هريرة، وفيه: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود».
وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر.
وقال ابن عباس ومجاهد: السيماء في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا: هو الخشوع والتواضع. قال منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة! ولكنه نور في وجوههم من الخشوع.
وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء.
وقال شمر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى.
وقال الضحاك: أما انه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة.
وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم، بيانه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار». وقد مضى القول فيه آنفا.
وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس.
الثالثة: قوله تعالى: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} قال الفراء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على {الْإِنْجِيلِ} وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء فقال ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل، فيوقف على هذا على {التَّوْراةِ}.
وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل، فلا يوقف على {التَّوْراةِ} على هذا، ويوقف على {الْإِنْجِيلِ}. ويبتدئ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} على معنى وهم كزرع. و{شَطْأَهُ} يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره.
وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الأخفش في قوله: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي.
وقال الفراء: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر:
أخرج الشطء على وجه الثرى *** ومن الأشجار أفنان الثمر
الزجاج: أخرج شطأه أي نباته.
وقيل: إن الشطء شوك السنبل، والعرب أيضا تسميه: السفا، وهو شوك البهمى، قاله قطرب.
وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الفراء، حكاه الماوردي. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان {شطأه} بفتح الطاء، وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب {شطأه} مثل عصاه. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق {شطه} بغير همز، وكلها لغات فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان.
وقال قتادة: مثل أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. {فَآزَرَهُ} أي قواه وأعانه وشده، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة {آزره} بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس {فآزره} مقصورة، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس:
بمحنية قد آزر الضال نبتها *** مجر جيوش غانمين وخيب
{فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ} على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق: جمع الساق. {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي يعجب هذا الزرع زراعة. وهو مثل كما بينا، فالزرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشطء أصحابه، كانوا قليلا فكثروا، وضعفاء فقووا، قاله الضحاك وغيره. {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل الله هذا لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.
الرابعة: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أي ثوابا لا ينقطع وهو الجنة. وليست {من} في قوله: {مِنْهُمْ} مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} [الحج: 30] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب، فأدخل {من} يفيد بها الجنس وكذا {مِنْهُمْ}، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة. ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوعد المغفرة تفضيلا لهم، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة.
وفي الآية جواب آخر: وهو أن {من} مؤكدة للكلام، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما. فجرى مجرى قول العربي: قطعت من الثوب قميصا، يريد قطعت الثوب كله قميصا. و{من} لم يبعض شيئا. وشاهد هذا من القرآن {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ} [الاسراء: 82] معناه وننزل القرآن شفاء، لان كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول: {من} مجنسة، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن، ومن جهة القرآن، ومن ناحية القرآن. قال زهير:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ***
أراد من ناحية أم أوفى دمنة، أم من منازلها دمنة.
وقال الآخر:
أخو رغائب يعطيها ويسألها *** يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
ف {من} لم تبعض شيئا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر. والنوفل: الكثير العطاء. والزفر: حامل الأثقال والمؤن عن الناس.
الخامسة: روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأ مالك هذه الآية {
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}. فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر. قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} الآية. وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح، قال الله تعالى: {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. وقال: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً} إلى قوله: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، ثم قال عز من قائل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» وقال: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه» خرجهما البخاري.
وفي حديث آخر: «فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه». قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد، فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعشر عشير، وللخمس خميس، وللتسع تسيع، وللثمن ثمين، وللسبع سبيع، وللسدس سديس، وللربع ربيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث.
وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا: «إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة- يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا- فجعلهم أصحابي». وقال: «في أصحابي كلهم خير».
وروى عويم بن ساعدة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا». والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، فحذار من الوقوع في أحد منهم، كما فعل من طعن في الدين فقال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، وما صح حديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطرحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما. فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب، وقد لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سب أصحابه، فالمكذب لأصغرهم- ولا صغير فيهم- داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن! فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله! وأمر لي بعشرة آلاف درهم. قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الامة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الامر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة الحجرات مبينة إن شاء الله تعالى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
 
تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفتح}رقم(48)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الماعون}رقم(107)
» تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الفلق}رقم(113)
»  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الحجرات}رقم(49)
» تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الأحزاب}رقم(33)
»  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الكهف}رقم(18)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
همس الحياه :: المنتدى : الإسلامى العام :: قسم : تفسير ۩ القرآن الكريم ۩ القرطبى-
انتقل الى: