{وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)}
قوله تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً} قال أبو بكر الأنباري: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، عن يزيد ابن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه، فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما {الذَّارِياتِ ذَرْواً} فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ما {الذَّارِياتِ ذَرْواً} قال: ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً} الرياح {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} السحاب {فَالْجارِياتِ يُسْراً} السفن {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} الملائكة.
وروى الحرث عن علي رضي الله عنه {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً}
قال: الرياح {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر {فَالْجارِياتِ يُسْراً} قال: السفن موقرة {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف، جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت.
وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث. ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: {وَالذَّارِياتِ} وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا.
وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب {إِنَّما تُوعَدُونَ} أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب {لَصادِقٌ} لأكذب فيه، ومعنى {لَصادِقٌ} لصدق، وقع الاسم موقع المصدر. {وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} يعني الجزاء نازل بكم. ثم ابتدا أقسما آخر فقال: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} وقيل: إن الذاريات النساء الولدات لان في ذرايتهن ذرو الخلق، لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين: أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر.
الثاني- أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} السحاب.
وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها، يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لان الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على قياس قولك امرأة حامل، لان حمل الشجر مشبه بحمل النساء، فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا:
عصب كوارع في خليج محلم *** حملت فمنها موقر مكموم
والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الاذن، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في الأنعام القول فيه. {فَالْجارِياتِ يُسْراً} السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت.
وقيل: السحاب، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما- إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع.
الثاني- هو سهولة تسييرها، وذلك معروف عند العرب، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها *** مشي السحابة لا ريث ولا عجل
{وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}
قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض.
وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة، ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم.
وفي {الْحُبُكِ} أقوال سبعة: الأول- قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقاله عكرمة، قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الاعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته. والثاني- ذات الزينة، قاله الحسن وسعيد بن جبير، وعن الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث.
الرابع- قال الضحاك: ذات الطرائق، يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء، قال: الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك.
وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه *** ريح خريق لضاحي مائه حبك
ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها.
الخامس- ذات الشدة، قاله ابن زيد، وقرأ: {وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً}. والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه *** لا حق الاطلين محبوك ممر
وقال آخر:
مرج الدين فأعددت له *** مشرف الحارك محبوك الكتد
وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الإزار وتحكمه.
السادس: ذات الصفاقة، قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة.
السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء، سميت بذلك لأنها كاثر المجر. و{الْحُبُكِ} جمع حباك، قال الراجز:
كأنما جللها الحواك *** طنفسة في وشيها حباك
والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: {ذاتِ الْحُبُكِ} {الحبك} و{الحبك} و{الحبك} والحبك والحبك، وقرأ أيضا: {الحبك} كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز {الحبك}. و{الْحُبُكِ} واحدتها حبيكة، {والحبك} مخفف منه. و{الحبك} واحدتها حبكه. ومن قرأ {الحبك} فالواحدة حبكه كبرقة وبرق أو حبكه كظلمة وظلم. ومن قرأ {الحبك} فهو كإبل وإطل و{الحبك} مخففة منه.
ومن قرأ {الحبك} فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور {الْحُبُكِ} فضم الباء.
وقال جميعه المهدوي. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} هذا جواب القسم الذي هو {وَالسَّماءِ} أي إنكم يا أهل مكة {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب.
وقيل: نزلت في المقتسمين.
وقيل: اختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل افتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين.
وقيل: اختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه.
وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عن الايمان بمحمد والقرآن من صرف، عن الحسن وغيره.
وقيل: المعنى يصرف عن الايمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين.
وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه إفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء، ومنه قوله تعالى: {أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا} وقال مجاهد: معنى {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يؤفن عنه من أفن، والأفن فساد العقل. الزمخشري: وقرئ: {يؤفن عنه من أفن} أي يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا.
وقال قطرب: يخدع عنه من خدع.
وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف. قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} في التفسير: لعن الكذابون.
وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون، يعني الكهنة.
وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى {قُتِلَ} أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين.
وقال الفراء: معنى {قُتِلَ} لعن، قال: و{الْخَرَّاصُونَ} الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب ساحر شاعر، وهذا دعاء عليهم، لان من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري: علمنا الدعاء عليهم، أي قولوا: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب، يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب، حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر، يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. واصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في الأنعام ومنه الخريص للخليج، لأنه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة، لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود، لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين.
وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليصرفوا الناس عن الايمان به. قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ} الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. {ساهُونَ} أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي متى يوم الحساب، يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} نصب {يَوْمَ} على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره، واصل الفتنة الاختبار.
وقيل: إنه مبني بني لاضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من {يَوْمُ الدِّينِ}.
وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع.
وقال ابن عباس: {يُفْتَنُونَ} يعذبون. ومنه قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد *** ببطن مكة مقهور ومفتون
قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي يقال لهم ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الدنيا. وقال: {هذَا} ولم يقل هذه، لان الفتنة هنا بمعنى العذاب.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} لما ذكر مآل الكفار ذكر مآل المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. {آخِذِينَ} نصب على الحال. {ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات، قاله الضحاك.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: {آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي عاملين بالفرائض. {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ} أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا {مُحْسِنِينَ} بالفرائض.
وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم.
{كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} معنى {يَهْجَعُونَ} ينامون، والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة، قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما *** أطعم نوما غير تهجاع
وقال عمرو بن معدى كرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة:
أمن ريحانة الداعي السميع *** يؤرقني وأصحابي هجوع
يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام، قاله الجوهري. وأختلف في {ما} فقيل: صلة زائدة- قاله إبراهيم النخعي- والتقدير كانوا قليلا من الليل يهجعون، أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}. الآية.
وقيل: ليس {ما} صلة بل الوقف عند قوله: {قَلِيلًا} ثم يبتدئ {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} ف {ما} للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: {كانُوا قَلِيلًا} معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} على معنى من الليل يهجعون، قال ابن الأنباري: وهذا فاسد، لان الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم، لان الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون {ما} جحدا. قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس- وهو قول الضحاك- من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ} أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} وعلى التأويل الأول والثاني يكون {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ} خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على {ما يَهْجَعُونَ}
، وكذلك إن جعلت {قَلِيلًا} خبر كان وترفع {ما} بقليل، كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. ف {ما} يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: {قَلِيلًا} إن قدرت {ما} زائدة مؤكدة ب {يَهْجَعُونَ} على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر {ما} زائدة كان قوله: {قَلِيلًا} خبر كان ولم يجز نصبه ب {يَهْجَعُونَ}، لأنه إذا قدر نصبه ب {يَهْجَعُونَ} مع تقدير {ما} مصدرا قدمت الصلة على الموصول.
وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب.
وقال مجاهد:
نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يمضون إلى قباء.
وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة.
وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها.
الثانية: روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه آت في منامه فأنشده:
وكيف تنام الليل عين قريرة *** ولم تدر في أي المجالس تنزل
وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في أخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: اكسواني من حللكما هذا، فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا لله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب، قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف.
الثالثة: قوله تعالى: {بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} مدح ثان، أي يستغفرون من ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في آل عمران القول فيه.
وقال ابن عمرو مجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا.
وقال الحسن في قوله تعالى: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} مدوا الصلاة من أول الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الأنصار، يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
الرابعة: قوله تعالى: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} مدح ثالث. قال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة.
وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس، لان السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة {سأل سائل} {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم، لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت.
الخامسة: قولة تعالى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السائل الذي يسأل الناس لفاقته، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. {وَالْمَحْرُومِ} الذي حرم المال. واختلف في تعيينه، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه، يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه.
وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته.
وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجئ بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية {وَفِي أَمْوالِهِمْ}. وقال عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال.
وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته.
وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ {إن لمغرمون بل نحن محرومون} نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فأقسموا له.
وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا.
وقال عبد الرحمن بن حميد: المحروم المملوك.
وقيل: إنه الكلب، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم.
وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب، لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره.
وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن، لأنه يعم جميع الأقوال.
وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع، من الحرمان وهو المنع. قال علقمة:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه *** أنى توجه والمحروم محروم
وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لاقربنكم ولابعدنهم» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ذكره الثعلبي.
{وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ} لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور، فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدرا لأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قيل: التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين.
وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول.
وقال السائب ابن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين، ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط، فتلك الآية في النفس.
وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ} {تَنْتَشِرُونَ}. السدي: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد.
وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والاطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ ألذل {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته.
وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم. قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة البقرة أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شيء إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر.
قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة فإنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم.
وقال أهل المعاني: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} معناه وفي المطر رزقكم، سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم، نظيره: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} إلا على الله رزقها.
وقال سفيان الثوري: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} أي عند الله في السماء رزقكم.
وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {وفي السماء رازقك} بالألف وكذلك في أخرها {إن الله هو الرازق} {وَما تُوعَدُونَ} قال مجاهد: يعني من خير وشر.
وقال غيره: من خير خاصة.
وقيل: الشر خاصة.
وقيل: الجنة، عن سفيان بن عيينة. الضحاك: {وَما تُوعَدُونَ} من الجنة والنار.
وقال ابن سيرين: {وَما تُوعَدُونَ} من أمر الساعة. وقاله الربيع. قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: {مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وخص النطق من بين سائر الحواس، لان ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الاذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به.
وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}».
وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتل علي منه شيئا، فقرأت {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً} إلى قوله: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} فقال: يا أصمعي حسبك!! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي واخذ بيدي وقال: أتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت: {وَالذَّارِياتِ} حتى وصلت إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} فقال الاعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قال فصاح الاعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه.
وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» أسنده الثعلبي.
وفي سنن ابن ماجه عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر» «ثم يرزقه الله». وروي أن قوما من الاعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رءوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية *** صما ململمة ملسا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت *** حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها *** لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها *** إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسمع قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} فرجع ولم يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب، وقد ذكرناه في سورة هود.
وقال لقمان: {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} الآية. وقد مضى في لقمان وقد استوفينا هذا الباب في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شي، وهو فراغ القلب مع الرب، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه. قوله تعالى: {مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قراءة العامة {مِثْلَ} بالنصب أي كمثل {ما أَنَّكُمْ} فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و{ما} زائدة، قاله بعض الكوفيين.
وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد، أي لحق حقا مثل نطقك، فكأنه نعت لمصدر محذوف. وقول سيبويه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و{ما} زائدة للتوكيد. المازني: {مِثْلَ} مع {ما} بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: ولان من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا، فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش {مثل} بالرفع على أنه صفة لحق، لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و{مِثْلَ} مضاف إلى {أَنَّكُمْ} و{ما} زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معها تكون معه مصدرا. ويجوز أن تكون بدلا من {لَحَقٌّ}.
{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)}
قوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. {هَلْ أَتاكَ} أي ألم يأتك.
وقيل: {هَلْ} بمعنى قد، كقوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}. وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في هود والحجر. {الْمُكْرَمِينَ} أي عند الله، دليله قوله تعالى: {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ} قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل- زاد عثمان بن حصين- ورفائيل عليهم الصلاة والسلام.
وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه تسعة.
وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر.
قال ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم غير مذعورين.
وقال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبد الوهاب: قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها، قال: امض بنا، فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن أن الامر هكذا، قال: هون عليك فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس، انظر إلى قوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}. قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً} تقدم في الحجر. {قالَ سَلامٌ} أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أو ردي لكم سلام. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما {سلم} بكسر السين. {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي أنتم قوم منكرون، أي غرباء لا نعرفكم.
وقيل: لأنه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}.
وقيل: أنكرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان.
وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
وقيل: خافهم، يقال: أنكرته إذا خفته، قال الشاعر:
فأنكرتني وما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب والصلعا
قوله تعالى: {فَراغَ إِلى أَهْلِهِ} قال الزجاج: أي عدل إلى أهله. وقد مضى في {والصافات}. ويقال: أراغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا تريغ أي تريد وتطلب، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. {فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في {هود}: {فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}. ويقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام.
قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} يعني العجل. ف {قالَ أَلا تَأْكُلُونَ} قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر، وأختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم.
وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري.
وفي الصحاح: العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، عن أبي الجراح، وبقرة معجل ذات عجل، وعجل قبيلة من ربيعة. قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أحس منهم في نفسه خوفا.
وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه.
وقال عمرو ابن دينار: قالت الملائكة لأنا كل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في هود. ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف {قالُوا لا تَخَفْ} وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي بولد يولد له من سارة زوجته.
وقيل: لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم.
وروى عون بن أبي شداد: أن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه وام العجل في الدار. ومعنى {عَلِيمٍ} أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحاق.
وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل وليس بشيء فإن الله تعالى يقول: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ}. وهذا نص.
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}
قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} أي في صيحة وضجة، عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته.
وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء: وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي.
وقيل: أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء تسمع كلام الملائكة. قال الجوهري: الصرة الضجة والصيحة، والصرة الجماعة، والصرة الشدة من كرب وغيره، قال امرؤ القيس:
فألحقه بالهاديات ودونه *** جواحرها في صرة لم تزيل
يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها، أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب، قاله سفيان الثوري وغيره.
وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. واصل الصك الضرب، صكة أي ضربه، قال الراجز:
يا كروانا صك فاكبأنا ***
قال الأموي: كبن الظبي إذا لطأ بالأرض واكبأن انقبض. {وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج: أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد، كما قالت: {يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ}. {قالُوا كَذلِكَ} أي كما قلنا لك وأخبرناك {قالَ رَبُّكِ} فلا تشكي فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارة لم تلد قبل ذلك فولدت وهى بنت تسع وتسعين سنة، وابراهيم يومئذ ابن مائة سنة وقد مضى هذا. {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه.
{قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)}
قوله تعالى: {قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} لما تيقن ابراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: {فَما خَطْبُكُمْ} أي ما شأنكم وقصتكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}
{قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يريد قوم لوط. {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ} أي لنرجمهم بها. {مُسَوَّمَةً} أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض.
وقيل: بسواد وحمرة.
وقيل: {مُسَوَّمَةً} أي معروفة بأنها حجارة العذاب.
وقيل: على كل حجر أسم من يهلك به.
وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في هود 1. فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. {عِنْدَ رَبِّكَ} أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قاله ابن زيد، وهو معنى قوله تعالى: {حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} على ما تقدم بيانه في هود.
وقيل: هي الحجارة التي نراها واصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: {مِنْ طِينٍ} ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري. قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} 1. {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يعني لوطا وبنتيه وفية إضمار، أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله: {فِيها} كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر، لان المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يدل على القرية، لان القوم إنما يسكنون قرية.
وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال: {إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}.
وقيل: الايمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين، لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في البقرة وغيرها. وقوله: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} يدل على الفرق بين الايمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. قوله تعالى: {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً} أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم، نظيره: {وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية الخربة.
وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. {لِلَّذِينَ يَخافُونَ} لأنهم المنتفعون.
{وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}
قوله تعالى: {وَفِي مُوسى} أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية.
وقال الفراء: هو معطوف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ} {وَفِي مُوسى}. {إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة وهي العصا.
وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. قوله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي فرعون أعرض عن الايمان {بِرُكْنِهِ} أي بمجموعة وأجناده، قاله ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: {أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} يعني المنعة والعشيرة.
وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قول عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني *** ولكن ما تقادم من زماني
وقيل: بنفسه.
وقال الأخفش: بجانبه، كقوله تعالى: {أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الاعراض عن الشيء.
{وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {أَوْ} بمعنى الواو، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا *** عدلت بهم طهية والخشابا
وقد توضع {أَوْ} بمعنى الواو، كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} وقد تقدم جميع هذا. أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ لكفرهم وتوليهم عن الايمان. {نَبَذْناهُمْ} أي طرحناهمِ {في الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه.