{ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)}
قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالإظهار. وقرأ عيسى ابن عمر بفتحها، كأنه أضمر فعلا. وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف، القسم. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء. واختلف في تأويله، فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «ن لوح من نور».
وروى ثابت البناني أن ن الدواة. وقاله الحسن وقتادة.
وروى الوليد بن مسلم قال: حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قول تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} ثم قال له اكتب قال: وما أكتب قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة- قال- ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت» قال: ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته». وعن مجاهد قال: ن الحوت الذي تحت الأرض السابعة. قال: وَالْقَلَمِ الذي كتب به الذكر. وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض. ثم قرأ ابن عباس ن وَالْقَلَمِ الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: اسمه البهموت. قال الراجز:
مالي أراكم كلكم سكوتا *** والله ربي خلق البهموتا
وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا.
وقال كعب: لوثوثا. وقال: بلهموثا.
وقال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع، فهم ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت.
وقال الضحاك عن ابن عباس: إن ن آخر حروف من حروف الرَّحْمنِ. قال: الر، ولَحْمَ، ون، الرَّحْمنِ تعالى متقطعة.
وقال ابن زيد هو قسم أقسم تعالى به.
وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة.
وقيل: أسم السورة.
وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح أسمه نصير ونور وناصر.
وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين، وهو حق. بيانه قوله تعالى: {كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون.
وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا، وهو اختيار القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره. قال: لان ن حرف لم يعرب، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل: هو أسم السورة، أي هذه السورة ن. ثم قال: وَالْقَلَمِ أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان، وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض، ومنه قول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الابطال يوما بسيفهم *** وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزا ورفعة *** مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة، ما ذكرناه أعلاها.
وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين، فقال: أجر، فقال: يا رب بم أجري؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ.
وقال الوليد بن عبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني، اتق الله، وأعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب فقال يا رب وما أكتب فقال أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد» وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن، فكتب فيما كتب: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1].
وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره: فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض، على ما يأتي بيانه في سورة: {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1]. قوله تعالى: {وَما يَسْطُرُونَ} أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم، قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به.
وقال ابن عباس: ومعنى وَما يَسْطُرُونَ وما يعلمون. وما موصولة أو مصدرية، أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة، على الخلاف. {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} هذا جواب القسم وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلي الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان.
وهو قولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي برحمة ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا- أن النعمة ها هنا قسم، وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون، لان الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله.
وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي والحمد لله. ومنه قول لبيد:
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي *** وفارقني جار بأربد نافع
أي وهو أربد.
وقال النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم *** طفحت عليك بناتق مذكار
أي هو ناتق. والباء في بِنِعْمَةِ رَبِّكَ متعلقة بِمَجْنُونٍ منفيا، كما يتعلق بغافل مثبتا. كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك. {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً} أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة. {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع ولا منقوص، يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر:
غبسا كواسب لا يمن طعامها ***
أي لا يقطع.
وقال مجاهد: غَيْرَ مَمْنُونٍ محسوب. الحسن: غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مكدر بالمن. الضحاك: أجرا بغير عمل.
وقيل: غير مقدر وهو التفضل، لان الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر، ذكره الماوردي، وهو معنى قول مجاهد.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس ومجاهد على خلق، على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن.
وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن.
وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه.
وقيل: أي إنك على طبع كريم. الماوردي: وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا، لأنه يصير كالخلقة فيه. وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم بالكسر: السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخيم: اسم جبل. فيكون الخلق الطبع المتكلف. والخيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذو الفضول ضن على المو *** لي وعادت لخيمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبائعها. قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال. وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام، فقرأت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلي الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر.
وقال الجنيد: سمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، يدل عليه قوله عليه السلام: «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق».
وقيل: لأنه أمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «أدبني ربي تأديبا حسنا» إذ قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف: 199] فلما قبلت ذلك منه قال: {إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
الثانية: روى الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن». قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذي». قال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم». قال: حديث غريب من هذا الوجه. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق». وسيل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج» قال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وعن جابر: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا- قال- وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون». قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)}
قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة.
وقيل: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} الباء زائدة، أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون. أي الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] و{يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]. وهذا قول قتادة وأبي عبيد والأخفش.
وقال الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج *** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقيل: الباء ليست بزائدة، والمعنى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي الفتنة. وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه الفتون، كما قالوا: ما لفلان مجلود ولا معقول، أي عقل ولا جلادة. وقاله الحسن والضحاك وابن عباس.
وقال الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه *** لحما ولا لفؤاده معقولا
أي عقلا. وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف، والمعنى: بأيكم فتنة المفتون.
وقال الفراء: الباء بمعنى في، أي فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون، أبا لفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى. والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان.
وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته. ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي يعذبون. ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
وقيل: المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه. وكانوا يقولون: إن به شيطانا، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى: فسيعلمون غدا بأيهم المجنون، أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي الذين هم على الهدى فيجازي كلا غدا بعمله.
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (
}
نهاه عن ممايلة المشركين، وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن مما يلتهم كفر.
وقال تعالى: {وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} [الاسراء: 74].
وقيل: أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والادهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين، قاله الفراء.
وقال مجاهد: المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك.
وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون.
وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الامر فيذهبون معك. الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضا: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون.
وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون، قاله أبو جعفر.
وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، قاله القتبي. وعنه: طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه اثنا عشر قولا. ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوي على اللغة والمعنى. أمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون.
قلت: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الادهان: اللين والمصانعة.
وقيل: مجاملة العدو ممايلته.
وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر:
لبعض الغشم أحزم في أمور *** تنوبك من مداهنة العدة
وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة، وكل شيء منها لم يكن. قال المبرد: يقال أدهن في دينه وداهن في أمره، أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وقال قوم: داهنت بمعنى وأريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري. وقال: فَيُدْهِنُونَ فساقه على العطف، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد: إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك، عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)}
يعني الأخنس بن شريق، في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق.
وقيل: الأسود ابن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود، قاله مجاهد.
وقيل: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صلي الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه، قاله مقاتل.
وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. والحلاف: الكثير الحلف. والمهين: الضعيف القلب، عن مجاهد. ابن عباس: الكذاب. والكذاب مهين.
وقيل: المكثار في الشر، قاله الحسن وقتادة.
وقال الكلبي: المهين الفاجر العاجز.
وقيل: معناه الحقير عند الله.
وقال ابن شجرة: إنه الذليل. الرماني: المهين الوضيع لاكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل، والمعنى مهان. {هَمَّازٍ} قال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان.
وقال الحسن: هو الذي يهمز ناحية في المجلس، كقول تعالى: {هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1].
وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، قاله أبو العالية وعطاء ابن أبي رباح والحسن أيضا.
وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه.
وقال مرة: هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر:
تدلي بود إذا لاقيتني كذبا *** وإن أغب فأنت الهامز اللمزة
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال: نم ينم نما ونميما ونميمة، أي يمشي ويسعى بالفساد.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا يدخل الجنة نمام».
وقال الشاعر:
ومولى كبيت النمل لا خير عنده *** لمولاه إلا سعيه بنميم
قال الفراء: هما لغتان.
وقيل: النميم جمع نميمة. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي للمال أن ينفق في وجوهه.
وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته.
وقال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. {مُعْتَدٍ} أي على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل. {أَثِيمٍ} أي ذي إثم، ومعناه أثوم، فهو فعيل بمعنى فعول. {عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ} العتل الجافي الشديد في كفره.
وقال الكلبي والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل.
وقيل: إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر، ومنه قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان: 47].
وفي الصحاح: وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل بالكسر.
وقال يصف فرسا:
نفرعه فرعا ولسنا نعتله ***
قال ابن السكيت: عتله وعتنه، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا:
الرمح الغليظ. ورجل عتل بالكسر بين العتل، أي سريع إلى الشر. ويقال: لا أنعتل معك، أي لا أبرح مكاني.
وقال عبيد بن عمير: العتل الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا.
وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق.
وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر:
بعتل من الرجال زنيم *** غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة- قالوا بلى قال- كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار- قالوا بلى قال- كل عتل جواظ مستكبر». في رواية عنه: «كل جواظ زنيم متكبر». الجواظ: قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، ورواه ابن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم». فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس». وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس: «لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم سمعتهن من النبي صلي الله عليه وسلم قلت: وما الجواظ؟ قال: الجماع المناع. قلت: وما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: وما العتل الزنيم؟ قال: الرحيب الجوف الوثير الخلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم». قلت: فهذا التفسير من النبي صلي الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري» قال: والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل: إنه ألجأ في القب وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ} قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: «تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله». والزنيم الملصق بالقوم الدعي، عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر:
زنيم تداعاه الرجال زيادة *** كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وعن ابن عباس أيضا: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة.
وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقيل: إنه الذي يعرف بالابنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال.
وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه *** بغي الام ذو حسب لئيم
وقال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم *** كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
قلت: وهذا هو القول الأول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له، والمعنى واحد. وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده».
وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير». وقالت ميمونة: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أو شك أن يعمهم الله بعقاب».
وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنى قحط المطر. قلت: أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلي الله عليه وسلم قالت: خرج النبي صلي الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: «لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت: يا رسول الله، انهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» خرجه البخاري. وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى، كذا فسره العلماء. وقول عكرمة: قحط المطر تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحد بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ. وفية نزل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} [فصلت: 7- 6].
وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق، لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيما.
وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها.
وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.
{أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)}
قوله تعالى: {أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ} قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والأعرج {آن كان} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ المفضل وأبو بكر وحمزة {أأن كان} بهمزتين محققتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر، فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على زَنِيمٍ، ويبتدئ أَنْ كانَ على معنى ألان كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير: ألان كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا: أساطير الأولين!! ويجوز أن يكون التقدير: ألان كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ أَنْ كانَ بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لان كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ولا يعمل في أَنْ: تُتْلى ولا قالَ لان ما بعد إِذا لا يعمل فيما قبلها، لان إِذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف.
وقال جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لان كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زَنِيمٍ لان المعنى لان كان وبأن كان، ف أَنْ متعلقة بما قبلها. قال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ والتقدير يمشي بنميم لان كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق ب عُتُلٍّ. وأساطير الأولين: أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم. وقد تقدم.
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ} قال ابن عباس: معنى سَنَسِمُهُ سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوما إلى أن مات.
وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] فهذه علامة ظاهرة.
وقال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ} [الرحمن: 41] قاله الكلبي وغيره.
وقال أبو العالية ومجاهد: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم: الأنف من الإنسان. ومن السباع: موضع الشفة. وخراطيم القوم: ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لان بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقال الطبري: نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم.
وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء، أي الصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي *** وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء. قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم.
وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله واهلة من سوء وذل وصغار، قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى:
فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها *** بشعرك وأعلب أنف من أنت واسم
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب *** وأنت بالليل شراب الخراطيم
قال الراجز:
صهباء خرطوما عقارا قرقفا ***
وقال آخر:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه *** ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
الثانية: قال ابن العربي: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي- كما تقدم- أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه، وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته، فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار، فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، حسب ما ثبت في الصحيح.
{إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْناهُمْ} يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء- ويقال بفرسخين- وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان، ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم.
وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير- وكانوا بخلاء- فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم، أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلاسوداد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتعلها. فيقال: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها.
وقال البكري في المعجم: سميت الطائف لان رجلا من الصدف يقال له الدمون، بنى حائطا وقال: قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم، فسميت الطائف. والله أعلم.
الثانية: قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسى منها من حضره، وذلك معنى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} [الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة على ما تقدم في الأنعام بيانه.
وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة ن والقلم.
وقيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهو ام الأرض. قلت: الأول أصح، والثاني حسن. وإنما قلنا الأول أصح لان العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين، ولم يستثنوا، فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، فذلك قوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا} يعني حلفوا فيما بينهم لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين، ولا يستثنون، يعني لم يقولوا إن شاء الله.
وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر، فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا: قل المال وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله: إِذْ أَقْسَمُوا أي حلفوا لَيَصْرِمُنَّها ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامة. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده. {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا إن شاء الله. فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ينادى بعضهم بعضا.
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: حاصدين زرعكم.
وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل.
وقال مجاهد: كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله.
وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا وقيل: معنى وَلا يَسْتَثْنُونَ أي لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة. فجاءوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام، على ما تقدم ذكره.
وقال ابن عباس: أمر من ربك.
وقال قتادة: عذاب من ربك. ابن جريج: عنق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل، قاله الفراء.
الثالثة: قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه». وقد مضى مبينا في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا} [آل عمران: 135].{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)}
قوله تعالى فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي كالليل المظلم عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر:
تطاول ليلك الجون البهيم *** فما ينجاب عن صبح بهيم
أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس أيضا: كالرماد الأسود. قال: الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. الثوري: كالزرع المحصود فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه.
وقال الحسن: صرم عنها الخير أي قطع، فالصريم مفعول أيضا.
وقال المؤرج: أي كالرملة انصرمت من معظم الرمل. يقال: صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به.
وقال الأخفش: أي كالصبح انصرم من الليل.
وقال المبرد: أي كالنهار، فلا شيء فيها. قال شمر: الصريم الليل والصريم النهار، أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا.
وقيل: سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري: وفي هذا نظر، لان النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف.
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)}
قوله تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ} أي يتسارون، أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة:
وإني لم أهلك سلالا ولم أمت *** خفاتا وكلا ظنه بي عودي
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. {وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ} أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرد يحرد بالكسر حردا قصد. تقول: حردت حردك، أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز:
أقبل سيل جاء من عند الله *** يحرد حرد الجنة المغلة
أنشده النحاس:
قد جاء سيل جاء من أمر الله *** يحرد حرد الجنة المغلة
قال المبرد: المغلة ذات الغلة.
وقال غيره: المغلة التي يجري الماء في غللها أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا.
وقال قتادة ومجاهد: عَلى حَرْدٍ أي على جد. الحسن: على حاجة وفاقه.
وقال أبو عبيدة والقتيبي: على حرد على منع، من قولهم حاردت الإبل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها.
وقال السدي وسفيان: عَلى حَرْدٍ على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف، وأنشد شعرا:
إذا جياد الخيل جاءت تردي *** مملوءة من غضب وحرد
وقال ابن السكيت: وقد يحرك تقول منه: حرد بالكسر حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد.
وقيل: عَلى حَرْدٍ على انفراد. يقال: حرد يحرد حرودا، أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم.
وقال أبو زيد: رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا، إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد، أي معتزل عن الكواكب. قال الأصمعي: رجل حريد، أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لابي ذؤيب:
كأنه كوكب في الجو منحرد ***
ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسره: منفرد. قال: وهو سهيل.
وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم. السدي: اسم جنتهم، وفية لغتان: حرد وحرد. وقرأ العامة بالإسكان. وقرأ أبو العالية وابن السميقع بالفتح، وهما لغتان. ومعنى قادِرِينَ قد قدروا أمرهم وبنوا عليه، قاله الفراء.
وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم وقال الشعبي: قادِرِينَ يعني على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود، أي منعوا وهم واجدون.
{فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها.
وقال بعضهم لبعض: إِنَّا لَضَالُّونَ أي ضللنا الطريق إلى جنتنا، قاله قتادة.
وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هي له- ثم تلا- {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19]» الآيتين.