مسألة في طلاق النّاسي
صورة المسألة: إذا علّق الرّجل طلاق زوجته على الذهاب إلى مكان محدّدٍ فذهبت زوجته إليه ناسية أو جاهلة أنّه قد علّق طلاقها على ذهابها إليه، وكانت ممّن يراعي ذلك؛ بحيث إنّها لو علمت لما ذهبت؛ فهل يقع الطّلاق؟
هذه الصورة من الطّلاق المعلّق ممّا يدخل تحت (طلاق النّاسي)، وقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأوّل: أنّ العامد والنّاسي في الطّلاق سواء؛ فمن علّق طلاقه على فعلِه أو فعلِ غيره؛ ففعله هو أو ذلك الغير عامداً أو ناسياً، فإنّه يحنث في يمينه، ويقع طلاقه.
وإليه ذهب الحنفيّة([1])، والمالكيّة([2])، والحنابلة في المشهور([3]).
دليل القول الأوّل: استدلّ أصحاب هذا القول بما يأتي:
1- حديث: «ثلاثٌ جدّهنّ جدّ، وهزلهنّ جدّ: النّكاح والطّلاق واليمين». فجعلوا النّاسي كالهازل في هذا الحكم([4]).
ونوقش من وجهين:
الأوّل: أنّه غريب بهذا اللفظ، وغير محفوظ عند المحدّثين([5]).
قال ابن الهمام الحنفي: «والمحفوظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ثلاثٌ جدّهنّ جدٌّ، وهزلهنّ جدٌّ: النّكاح والطّلاق والرجعة. أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه»([6]).
الثاني: أنه لو ثبت بلفظ (اليمين) لم يكن فيه دليل؛ لأنه جعل الهزل باليمين جدًّا، والهازل قاصد لليمين فلا يعتبر عدم رضاه به شرعاً بعد مباشرته السبب مختاراً، والناسي لم يقصد شيئاً أصلاً، ولم يدْرِ ما صنع؛ فلا يكون الوارد في الهازل وارداً في الناسي، ولا يثبت في حقّه نصًّا، ولا قياساً([7]).
2- أنّ الفعل شرط الحنث، والفعل الحقيقي لا ينعدم بالنسيان([8]).
ويناقش: بأنّ الفعل وإن لم ينعدم بالنسيان؛ إلّا أنّ الفاعل غير قاصد له، ولا نيّة له في الطّلاق، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «ولكلّ امرئ ما نوى»([9]).
القول الثاني: أنّ طلاق الناسي لا يقع في هذه الصورة؛ إذا قصد المطلّق حثّ امرأته أو منعها لا مجرّد إعلامها([10])، ولا يحنث في يمينه.
وإليه ذهب الشافعيّة في الصحيح([11])، وهو رواية عن الإمام أحمد([12])؛ اختارها شيخ الإسـلام ابن تيمية([13])، وتلميذه ابن القيّم([14])، واستظهرها شمس الدّين ابن مفلح في الفروع([15]).
دليل القول الثاني: استدلّ أصحاب هذا القول بما يأتي:
1- قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب:5].
2- قوله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»([16]).
ووجه الاستدلال من الآية والحديث: أنّ الله رضي الله عنه رفع المؤاخذة عن النّاسي في حال نسيانه؛ فالقول بوقوع طلاقه مخالفٌ لظاهر هذه النّصوص([17]).
3- أنّ النّاسي غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنّائم والمجنون([18]).
ويرى الباحث: أنّ القول بعدم وقوع الطّلاق في هذه الصورة أقرب القولين إلى الصواب؛ وذلك لأمور:
الأوّل: قوة أدلّتهم وظهورها، في مقابل ضعف أدلّة القول الأوّل؛ الّتي لم تسلم من مناقشة واعتراض.
الثاني: أنّ هذا القول هو الأنسب لما جاءت به الشريعة من التّيسير ورفع الحرج؛ فضلاً عمّا فيه من المحافظة على عقدة النّكاح، التي يَتَشَوَّف الشرعُ إلى بقائلها، وعدم حلّها بسبب ضعيف.
الثالث: أنّ هذا القول قد مال إليه واختاره غيرُ واحد من المحقّقين في مذاهب أصحاب القول الأوّل؛ كابن الهمام من الحنفيّة، وابن العربي من المالكيّة، وابن تيمية وابن مفلح من الحنابلة.
والله أعلم، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم
إدارة الإفتاء